علي الشهابي *لا شك في أن الأزمة الراهنة دفعت المواطنين في الغرب باتجاه اليسار، أما عندنا فانتشى الماركسيون وهم يعتبرونها أزمة الرأسمالية التي أعادت للماركسية شبابها. وهناك إشارات توحي بهذه العودة، ومنها صعود نجم الشاب أوليفييه بوزانسنو (34 عاماً) مرشح التروتسكيين لانتخابات الرئاسة الفرنسية للدورتين السابقتين، الذي نال في الانتخابات الأخيرة فقط 4.1% من الأصوات.لقد بات 49% من الفرنسيين يرى هذا المرشح الخصم الرئيسي لساركوزي، بحسب «نيويورك تايمز». وتتابع الصحيفة أنه بهذه النسبة سبق السيدة سيغولين رويال، والاشتراكية مارتين أوبري، ولم يسبقه إلا عمدة باريس الاشتراكي برتران ديلانوي... هذا ما كانت عليه بعض استطلاعات الرأي حتى قبل أن يعلن بوش عن انفجار الأزمة المالية، فكيف بعدها؟
سأناقش «العصبة الشيوعية الثورية» ـــ التنظيم التروتسكي الرئيسي في فرنسا ـــ بمنظورها السياسي العام، وبموقفها من الأزمة المالية الراهنة كما عبّر عنه بوزانسنو أثناء الحوار مع الصحيفة المذكورة، وسأبدأ بما يمكن تسميته إعلان مبادئ.
أولاً: لأن الماركسية صارت منذ أمد بعيد ماركسيات، فلن أستخدم إلّا الدليل العقلي، ولن أشهّد أو أستشهد سياسياً إلا بتروتسكي وغيره من الماركسيين الذين تعترف العصبة بماركسيتهم.
ثانياً: للماركسية حدود لا تتجاوزها، والثورة الاجتماعية أحدها. وبوزانسنو لا يتجاوزها، لكنه يوحي بتجاوزها ليسوّق أفكار العصبة في المجتمع المعاصر، وفي الوقت نفسه ليلتف على الرأسمالية. فبهذا الإيحاء، يعتقد أنه يهدهد البورجوازية ويشد «الجماهير» إليه ريثما يضع الجميع أمام الثورة الاشتراكية كتحصيل حاصل.
ثالثاً: لا بد من التمييز بين الفعل السياسي، والرأي السياسي. الثاني لا يحتاج أداة تنظيمية، فالصحف والفضائيات تعج بذوي الرأي السياسي حتى يكاد عددهم يفوق عدد القرّاء والمشاهدين؛ أما الفعل السياسي فيحتاج إلى تنظيم. وأرى موقف العصبة، أثناء الأزمة المالية، ما زال أقرب إلى الرأي السياسي منه إلى الفعل.
إعلان المبادئ هذا يتضمن ادّعاءين: الأول محاولة العصبة تمويه الثورة الاشتراكية كإجراء ديموقراطي، وبهذا «تتشاطر»، قل تتآمر. والثاني إنها تمارس السياسة ممارسة أيديولوجية، أي مجرد التعبير عن الرأي. هذان الادّعاءان تثبت دعواهما من خلال ما قاله السيد بوزانسنو للصحيفة.
يقول بوزانسنو «إنّ الرأسمالية في أزمة عميقة، وهي تبتعد عن طريق شراء السلم الاجتماعي. والأزمة هذه المرة ليست في الأطراف، بل في قلب النظام، لذا سيكون لها مفعول الدومينو». فما دام الجوهري في مفهوم الدومينو هو سقوط القطعة دفعة واحدة، وسقوط الثانية بفعل سقوط الأولى والثالثة بفعل سقوط الثانية... يصير معنى الكلام «بما أن الرأسمالية باتت تدفع المجتمع نحو الصراع العنيف؛ ولأن الثورة الاشتراكية ستنتصر هذه المرة أولاً في الولايات المتحدة أو ألمانيا أو اليابان أو فرنسا، فستتهاوى الرأسماليات تباعاً بفعل انتصار الثورة في بلد تلو الآخر».
وحتى يخفي قناعته بأن الثورة لا تنتصر إلا باستيلاء البروليتاريا على السلطة عنوة، نراه يقول «يجب أن يأتي التغيير الفعلي من تحت، لا من ديكتاتورية البروليتاريا». وفي الوقت نفسه يؤكد للصحيفة أنه «يؤمن بضمانات الحماية التي تقدمها الحقوق المدنية... والتعددية الحزبية». بعقل من يستخف، بعقل الفرنسيين أم الصحافيين؟ هل جاءت ديكتاتورية البروليتاريا في روسيا والصين من فوق وقامت بالتغيير، أم أن التغيير فيهما جاء من تحت ووصل إلى فوق؟ وكيف يمكن أصلاً أن يأتي التغيير الثوري من تحت ولا يصل إلى فوق إلا إذا انهزمت الثورة؟ وبما أنه يعتبر «الحقوق المدنية والتعددية الحزبية» ضمانات في وجه الديكتاتورية البروليتارية، فهل سيحترم هذه الحقوق بما فيها حق الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج؟ أم أنه سيحترمها كلها باستثناء هذا الحق؟ وإذا قاوم الرأسماليون انقضاض البروليتاريا على هذا الحق، فهل ستسحقهم أم تتركهم يسحقونها؟ وإن صدف وقررت سحقهم، ولهم أحزابهم وجمهورهم المستعد للمقاومة، فهل ستسحقها أيضاً؟ وهل سيتغير عندئذٍ مفهوم التعددية السياسية ليشمل فقط الأحزاب المؤيدة للثورة؟
هذه الواقائع المفترضة مجرد هذيانات، فمواطنو الغرب في وادٍ وافتراضاتنا في واد. بديهي أنني لا أعرف ما يجب عمله بالملموس في هذه الأزمة، فهذه المعرفة تتيسر للمهتمين الذين يعيشون في البلدان الصناعية، لرؤيتهم عيانيّاً كيفية حدوث الأزمة وماهية الإجراءات الكفيلة بحلها. ولكن بدل البرنامج الثوري لمجموعة «العمل الاشتراكي»، حلفاء التروتسكيين في الولايات المتحدة (صحيفة الحياة 28 أكتوبر 2008/ الأزمة المالية والندب على الماركسية) وبدل الطلاسم التي يتحدث بها السيد بوزانسنو عن «الثورة من فوق ومن تحت وكيف ستحاول العصبة التوازن بين أخذ السلطة وعدم السماح للسلطة بأخذها وعن عملية سياسية تسمح بعملية ثورية تسيطر عليها قاعدتها»، بدل هذا الكلام غير المفهوم، وغير المهم للمواطنين لعدم ارتباطه المباشر بأزمتهم الحالية، يمكن القول: تقول الحكومة الأميركية إنها تحقق مع المشكوك بمسؤوليتهم عن الأزمة؛ كما تقول الحكومات الأوروبية إنها ستحاسب المسؤولين في بلدانها. وبما أن المتلاعبين تلاعبوا في ظل هذه الحكومات، فنحن نطالب بالمشاركة في التحقيق من خلال اختيار المواطنين للقضاة. هذا ما يمكن القيام به، وقبله ومعه شرح آلية حل هذه الأزمة وتوضيحها بعيداً عن المساس بمصالح الشرائح الدنيا إن أمكن.
بديهي أن التروتسكيين سيردّون «إن المسؤول الأول عن هذه الأزمة هو النظام الرأسمالي، الذي يسمح لفلان وفلان بالتلاعب بقوت الشعب، ونحن نريد محاسبة النظام ككل لا عدد من أفراده، هؤلاء الذين قد يكونون في التحليل النهائي بعض ضحاياه».
يقول تروتسكي «من لا يجلس إلى رقعة الشطرنج ويلعب، فلن يقول له أحد كش مات». وبما أنهم لن يتخلوا عن ثوريتهم، وبواقع أن نهجهم السياسي لن يوصلهم إلى السلطة، فلن ينهزموا بل سيظلون كالمذياع: يتكلمون عن الثورة وعن محاسبة النظام الرأسمالي وعن مظالم الرأسمالية وعن زيادة الفقر وكيفية تبخر مدّخرات العاملين... ريثما ينضج المجتمع للثورة. ولكن ماذا لو أنه لن ينضج؟ هذا السؤال لا يخطر ببالهم، والأدق أنهم ينحّونه جانباً باعتباره من السفاسف...
* كاتب فلسطيني