سعد الله مزرعاني *أعادت زيارة زعيم «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون إلى دمشق، موضوع «علاقاتنا» الخارجية وموضوع تعديل الطائف (علاقاتنا الداخلية)، إلى مقدمة السجالات. الصخب الذي ميّز برنامج الزيارة في دمشق ومدن سورية أخرى، لم يتجاوزه إلا الصخب الذي انطلق، قبل ذلك البرنامج الاستثنائي وأثناء تنفيذه وبعده، في بيروت وكل المدن اللبنانية (تقريباً): استغراباً وتحريضاً وتنديداً ورفضاً... (لا نتحدث هنا عن الترحيب والإشادة).
بدا واضحاً من خلال حملة كل فريق 14 آذار على العماد عون وتياره والزيارة إلى دمشق ودمشق نفسها، أن هذا الفريق ما زال يتبنى سياسة العداء للقيادة السورية، وأنه يرفض تطبيع العلاقة مع دمشق جملة وتفصيلاً (يستوي في ذلك الموقف من الزيارات الرسمية لكل من وزير الداخلية وقائد الجيش ووزير الدفاع... والموقف من الزيارات غير الرسمية، وخصوصاً منها زيارة العماد ميشال عون الاستثنائية).
وليس افتئاتاً القول إن هذا الفريق ما زال على متاريسه ورهاناته السابقة، بما فيها الرهان على خارج آخر، هو تحديداً الولايات المتحدة الأميركية. فها هنا أيضاً يطمئننا «ضليعون» في العلاقة مع إداراتها، بأنها «لم تغير استراتيجيتها حيال إيران وسوريا بل غيرت تكتيكها... أي ما يسمونه المقاربة لا التقارب» (النائب مروان حمادة: «النهار» عدد الاثنين 8 الجاري ص 5).
كذلك دلت ردود فعل قوى وشخصيات عديدة في فريق 14 آذار على ما طالب به عون من تعديل لبعض أحكام «الطائف» بأن هذا الفريق متمسك بالنظام السياسي الحالي دون أي تعديل أو تبديل، مهما كانت وجهتهما، وأياً كان الطرف المطالب بهما. ولقد تبارى نواب في 14 آذار من كتل مختلفة في جلسات المناقشة العامة في مجلس النواب هذا الأسبوع، في تحذير عون من المساس بـ«الطائف»، وفي إسباغ صفة القداسة على هذا الاتفاق!
هل هذه المواقف تعني، حقاً، التمسك باتفاق «الطائف» لعام 1989 و«الدوحة» لأيار عام 2008؟ من المفيد هنا استعادة بعض نصوص «اتفاق الطائف» الذي نُظر ويُنظر إليه من جانب كل الأطراف تقريباً بشكل جزئي أو مجتزأ. فتحت عنوان العلاقات اللبنانية ــــ السورية نقع على الآتي: «تقوم بين لبنان وسوريا علاقات مميزة تستمد قوتها من جذور القربى والتاريخ والمصالح الأخوية المشتركة، وهو مفهوم يرتكز عليه التنسيق والتعاون بين البلدين، وسوف تجسده اتفاقات بينهما في شتى المجالات، بما يحقق مصلحة البلدين الشقيقين في إطار سيادة كل منهما واستقلاله». ولقد جدّد «اتفاق الدوحة» (وهو طغى عليه الجانب السياسي التسووي) إعلان الالتزام بـ«مبادئ الدستور اللبناني واتفاق الطائف». وهذا يعني، ضمناً وعلانية، الالتزام تكراراً بالفقرة المذكورة بشأن العلاقات اللبنانية ــــ السورية: أدرك ذلك الذين وقعوا على ذلك الاتفاق أم لم يدركوه.
كذلك فإن في «اتفاق الطائف» بنوداً معروفة وواضحة تماماً، تؤكد الصفة المؤقتة للتقاسم الطائفي والمذهبي الحالي للسلطات. وهذه البنود تحدد عام 1992 موعداً لبدء تنفيذ الإصلاحات (المادة 95 من الدستور اللبناني).
مما تقدم ومن سواه، يستدل أن إعلان التمسك بـ«الطائف»، لا يعني اليوم، ولم يكن يعني في السابق، الالتزام بكل بنوده، في نصوصها وفي تكاملها ضمن السياق والأوضاع اللذين أملياها. وإذ يشير ذلك تكراراً إلى خلل مزمن في عدم احترام النصوص والاتفاقيات، بما فيها نصوص الدستور اللبناني، فإن الدلالة الأهم اليوم هي في استمرار فريق 14 آذار الاحتفاظ ببعض المواقع والمواقف الصراعية العائدة لمرحلة ما قبل «اتفاق الدوحة»، دون تعديل أو تبديل.
إلا أن رفض المنطلقات والأسباب والأشكال التي يعتمدها فريق 14 في التعامل مع زيارة عون إلى سوريا لا يعني أننا محكومون، إلى قيام الساعة، بنوع من العلاقات مع الخارج، هو ذلك النوع الذي يطبع «علاقاتنا» الخارجية جميعاً حتى هذه اللحظة! ولا يعني هذا الكلام، بالضرورة، تصنيف طبيعة زيارة عون إلى دمشق ونتائجها في خانة ما هو سائد، أو ما كان سائداً من العلاقات غير السليمة وغير المتوازنة مع الخارج العربي أو الدولي (الغربي).
لقد أقدم العماد ميشال عون على خطوة جريئة من خلال زيارة دمشق. وهذه الخطوة منسجمة تماماً مع ضرورات تطبيع العلاقات بين «التيار الوطني الحر» وزعيمه، وبين السلطات السورية من جهة، ولبنان وسوريا عموماً، من جهة أخرى. إلا أن الموضوعية تقتضي أيضاً، التحذير من أن يمتص النمط السابق من العلاقات التي أشرنا إلى الخلل فيها، «النوايا الحسنة»، وخصوصاً أننا لا نزال نعيش في خضم الصراع الإقليمي والدولي نفسه الذي حكم مرحلة السنوات الخمس الماضية. هذا رغم «اتفاق الدوحة» وقبله «الطائف»، ورغم استبدال جورج دبليو بوش بباراك أوباما وكوندوليزا رايس بهيلاري رودهام كلينتون!
وفي سياق هذا التحذير، نستطيع أيضاً التوقف عند موضوع «تعديل» الطائف الذي أطلقه عون في أحد لقاءاته في العاصمة السورية. يتناول التعديل المشار إليه ما يتصل بصلاحيات رئاسة الجمهورية. ونتذكر هنا أن «الطائف» قد نقل جزءاً رئيسياً من الصلاحيات الواسعة والاستثنائية السابقة العائدة لرئيس الجمهورية، إلى مجلس الوزراء مجتمعاً. ولقد لعبت دمشق دوراً أساسياً في دعم هذا التغيير الذي نُظر إليه (وهو كان كذلك بالفعل) على أنه تقليص للدور المسيحي في ممارسة السلطة (ولدور الموارنة خصوصاً، إذ كانوا أصحاب القرار الأساسي فيها).
إنّ طرح هذه المسألة في سياق التنافس الحاد الراهن (بعضه مرَضي!) على استقطاب المسيحيين، وخصوصاً أصواتهم في الانتخابات المقبلة، لن يؤدي إلا إلى زيادة الانقسام الداخلي وتفاقمه (اللبناني ــــ اللبناني)، وخصوصاً الجزء المذهبي والطائفي منه. ولقد بدأ بالفعل استثمار هذا الموضوع على أسوأ نطاق أوسعه. ونستطيع أن نتوقع منذ الآن، أنه لو قدّر لهذا الطرح أن يأخذ طريقه إلى التنفيذ، فإنه سيُنظر إليه بوصفه استحضاراً لـ«ثنائية» جديدة، مذهبية وطائفية وسياسية (مارونية ــــ شيعية)، وإن بعناصر وبصيغة أخرى.
لا نريد هنا أن نبرّر أخطاء أحد. لكننا نود أن نحذّر من أن مقاربة الإصلاح أو التغيير، بمنطق مذهبي أو طائفي، لن تقود إلا إلى مزيد من التوتر والانقسام الداخليين، ومعهما أيضاً استمرار التوجه إلى الخارج الدولي من أجل الحماية أو الاستقواء. أي أن ذلك سيجدد عناصر الخلل في الوضع اللبناني، لجهة إضعاف الوحدة الوطنية واستمرار عدم الاستقرار، وتفاقم الاستقطابات الخارجية... وبالنتيجة مفاقمة الانقسام الأهلي وإبقاء لبنان وطناً معلقاً، أي وطناً قيد الدرس!
من أجل ذلك، لا بد من الروية والحذر. فالأمر بالنسبة لصلاحيات رئيس الجمهورية، يتعدى المسائل «التقنية» من مثل الحق في مهلة أطول لرد القوانين، وصولاً إلى الحق في حل مجلس النواب... بل يمكن الذهاب إلى أبعد في التطلب من العماد عون وتياره بعد الخطوة الجريئة في الذهاب إلى دمشق: اعتماد مقاربة إصلاحية أساسية (لكي لا نقول جذرية) بات الوضع اللبناني محتاجاً إليها للتخلص من الأزمات الخطيرة التي يعانيها.
وفي سجل العماد عون من الرصيد المدني ما يسمح له (بل ما يفرض عليه) ذلك! هل نطلب الكثير من العماد عون وتياره؟ الجواب نعم! لكن شرط ذلك أيضاً دور أكبر للقوى الديموقراطية: قوى الإصلاح والمساواة والسيادة...
إن إنقاذ لبنان بمسيحييه وبمسلميه، لكي يكون لهؤلاء وطن يتساوون فيه بعيداً عن الصراع القاتل و«الديموقراطية التوافقية»، بات الممر الإجباري لتجنب الانزلاق نحو الفدراليات والتقسيم!
* كاتب وسياسي لبناني