أنسي الحاج
إهداء العينين
لماذا أُضيِّع عينيَّ في القراءة؟ ألأنّه لم يُتَح لي تضييعهما في العيون؟ خلال العهد الأول من حياتي بلغ بي الخجل من النظر في عيون الآخرين حدّ العلّة. ظننتُ أنّ بي حَوَلاً يمنعني من التحديق أو من محضِ نظرٍ عادي. أين كانت عيناي لا أعرف. وتَحَصَّنْتُ بنظّاراتٍ غامقة لتحجب نظري فأتمَوَّه تماماً.
لا بدّ من تضييع العينين. أُعْجَب لأشخاصٍ بلغوا التسعين وعيونهم أنضر من الفلّ. ألم يغرقوا يوماً؟ لا بدّ من إهداء العينين. والأذن والخيال. لا بدّ من السلام على الشجر عندما يمرّ بنا ومِنْ بَذْل الحنان للأغصان والثمار المتفانية. كلُّ شيءٍ في الكون يجاهد لاسترعاء عينيك.

اركعْ ما شئتَ: حتى وأنتَ تُصلّي، أو تُذَلّ تحت رشّاش، أو ينهمر رأسُك من السّكْر، تُصوّبُ نَظركَ إلى هدف. وحين تُغمض عينيكَ هنالك يكون صريف الأسنان، أمام شلّالات الدكنة الكواكبيّة، أمام هدير العدم، أمام التماعِ ركبتين تحت لَمْبات الذاكرة.

صحيحٌ ما يجيبكَ هو أنت، لكنّه أنت الثاني. أو ربّما الأوّل. إنه مجموع الأصداء فيك ومجموع أصواتك. إنه مجموع الأصوات فيك، الأصوات والأيدي والأحجار الفَظّة والكريمة واللعنات والاستجابات، ربّاه، الاستجابات، ربّاه! ربّاه!... ومجموع أصدائك. ومجموع ما يشرق من نجوم ويَهْطُل من مياه، مجموع العصافير وفي فمها تغريدة نهاية الطوفان.
طوفان التخلّي الذي نسمّيه الحياة.


الهنيهات المتكسّرة
إدهاشات العلوم تتوالى. ثورة التواصل ألغت الانعزال الاجتماعي وتكاد تلغي الانعزال الفردي أو تبتدع منه نوعاً جديداً: لقد بات كلُّ واحدٍ قادراً أن يُشْبه الجميع، لكن ما كان يُنهض الميت من قبره، الفجأة، الصعق، الخَلْب، الانفجار، الخَطْف، السيل، الكتاب المُعيد خَلْقَ حياتك، الصورة التي تُجمّدك، الرؤيا أو حتى الرؤية التي تجعلك ملبوساً كفتاةِ «لورد»، مسكوناً بأرواح تهمس في روحك قشعريراتٍ فتمشي على وقعها فوق الهواء وبين أنياب النار... كلُّ هذا سيظلّ لا يأتي إلا من حيث كان يأتي: هذا الوجه، تلك الأغنية، هذا الغموض، تلك المسافة، تلك التفاصيل، وإطلالات الجنّ وصغار الكائنات اللطيفة الخفيّة، على وجه أحلامك.
تلك الهنيهات المتكسّرة هي مصدر أنفاسكَ وسط انهيار الجبال عليك، هي كلُّ قوّتك، وهديّة الحياة إليك، والباقي طلوع البحر فوق البرّ، وهجوم الظلام، وتَهاوي الجبال على وجهكَ الذي خُلِقَ بالرعبِ وعَبَرَ بالتمثيل وانتهى بالرعب.


شاهد زور
يسخرون قائلين: «ما ألمعه في غيابه!»، كأنّ حضورهم ألمع، أو كأن الألمعيّة برهان شيءٍ غير التمثيل. الغياب لا يترك وراءه سوى النسيان أو التخيّل. الأول تجديد تأشيرة والآخر بدء حياكة قفص يخرج منه المعشوق مركولاً بالأقدام ويخرج العاشق وقد أعطى أفضل ما لديه ولم يحصد إلاّ الخيبة وحكمة الخيبة.
كما نعرف جميعاً، لا هذا خيَّب غير الباني على ضباب رأسه، ولا ذاك أعطى إلا شَبَحاً. غراميّاتٌ تملأ الدنيا، وكلُّ الحبِّ الذي فيها شاهد زور.


فوق، فوق
عند زاوية الطريق، على صخرة تحت سنديانة بطريركيّة، جلسَ رجلٌ يغازل البحرَ المتأوّه تحت الجبل، وصمت الأصيل يصغي. سَلْهُ مَن أنتَ أيّها الرجل على تلك الصخرة، يُجِبْكَ أنا راعي الجبل والبحر، والجبل والبحر لا يباليان.
ـــ ومَن ذا يبالي؟
ـــ الهواء.
ـــ ولماذا لا تستغني عن البحر الغادر والجبل الفظِّ وتركض وراء الهواء؟
ـــ سأركض، لكنّها لعبةٌ للصبا، للهواء. لعبةٌ تُلاعب الريح بالأجنحة، واليوم أنا أقرب ما أكون إلى التراب.
بالنيابة عن ذلك الراعي أخاطبك أيّها الهواء:
سِقْهُ إلى الأعالي، اسكبْهُ من أنخابك، اشفقْ عليه من عجرفة الجبل وخَبْثَنَةِ البحر، دع هبوبك يحمله إلى أمّكَ العاصفة، ضعه في حَضْرتها هناك، حيث أهلوه الصواعق والأمطار والحفيف والصراخ، حيث موسيقى الرياح تراقص أنداءها كنفس هذا الراعي التي لا يستحقّها ماءٌ ولا حَجَرٌ على الأرض، فكلاهما أفسدته عفونته، وصار الهواء وحده إله القدرة والإنعاش واللهو والتلاقُح وتصافُح القلوب.
انقله على جناحك أيّها الهواء، حيثما تريد فوق، فوق فوق، بَعد الفواصل، أبعد من ظلمات الكواكب وتراشقها، إلى الأفق الآخر المنسرح كالحريّة العظمى، إلى زرقةِ سماءٍ لم يعد اسمها سماء بل زرقاء، إلى ملاعبِ الهواءِ المطلق، هواءٌ له ماؤه وناره وترابه وبَشَره وحيوانه. هواءٌ له الكون. لقد بات للبشريّةِ كلُّ ما تريد ولم يعد لها هواء.
واخطفْني مع الراعي إذا سَمَحَتْ يداك.


شَعْرة
لا يتأتّى هذا اليقين إلّا مرّة.
ولكنْ هل أنت متيقّنٌ من هذا اليقين؟
لا تستطيع أن تحكي أسرارك إلّا لهذا الشخص.
هل أنت واثقٌ من أن أسرارك مستودَعَةٌ في حبّه؟
تريد أن تمضي حياتك مع هذه المرأة.
هل أنت متأكّدٌ أن حبّكما سيبقى إن كنتما معاً؟
شَعْرة
شعرة تواجه الأعاصير والخناجر
شعرة الهيام تواجه ذئب الحقيقة
تنقطع ولا تنقطع.
حتى يجيء يومُ الفراقِ الدائم
اليأس الدائم
الاقتناع الدائم
فتتجدّد الحكاية، وتعود فتولد الولادة
ربّما هذه المرّة بلا يقين
غير يقين بشاعتنا
ولا تظلّ الشعرة رقيقة بل تصبح جسراً
والفراق انطلاقاً
والبقاء معاً صالحاً للتمديد
كتمديد الاحتجاز للراغب في استنفاد شَهْد الشهادة.


أيّها الآب
أيّها الآب، لماذا لا تُرْدي الإنسانَ برصاصةٍ عوضَ أن تَدَعه يموت ذلك الموت القديم؟ ألم تسأم مَشاهد الاهتراء؟ أم أن الجرائم والحروب هي أسلوبٌ آخر لك في سرعة الموت؟
أيّها الآب، لم يَقْتُلك أحد. أنت لا تعرف غير موت البنين.


مَن يخاف الموتَ إلى حدّ إقناع نفسه بأن الآخرين وحدهم يموتون؟ الرافض أن يكون بشراً يربطه بهم مصير واحد. مَن يطلب الموت ويأخذه كأنه بطولة أو فداء؟ الرافض أن يكون بشراً يربطه بهم مصير واحد. الأول نرجسيّة الولد والثاني أنانية المتألّه. كلاهما لا يُحبّ سوى نفسه.
□ □ □
صديقةٌ حسناء لا تَكْره أحداً كشقيقتها التوأم. ترفض أن يكون لها شبيه، إلّا من تستطيع استتباعه فتصبح في المقام الأعلى. تُحاذر أن تفعل المُنْتَظَر كي لا يعيدها الشعور به إلى مكان محجوز بين العموم. وفرط ما تهوى مفاجأة الآخرين، تُفاجئ نَفْسها. ترى، إن تغزّلتَ بها، غيمةً تمرّ على جبينها، فغزلكَ قد ينطبق أيضاً على توأمها. تعلّمتُ من طباعها (وما ألذَّ طباعها حين يزدهرُ لديها الشعور بفرادتها) أكثر ممّا تعلّمتُ من كتاب أو معاشرة: الغربة الروحيّة هي العلامة الوحيدة التي يشتهي عاشقُ الذاتِ أو المتميّز أو المتألّه أن تَحْكُم قَدَره، لعلّها، إذ تُعفيه من الحياة كما يعيشها الآخرون، تُعفيه من الموت كالآخرين.
□ □ □
تَعلَّم أن تُصدّق شفاه أحبّائك الكاذبة...
□ □ □
تنام لأجل النوم وتعيش لأجل الحياة. كمَن يأكل حتى لا يكتئب الأكل!
□ □ □
خذ بيد مَنْ يَمضي، ستجد في يدكَ خيراً قد لا تجده في يدِ مَنْ يُقْبِل.
□ □ □
عندما سنتلاقى غداً لا تطمعْ بي لأنّي صرتُ أكثر تقديراً لك...
□ □ □
انظرْ حيثما نظرتَ: خُفُوتُ الضوءِ، التواءُ الصوتِ، انحناءُ الظَهْرِ... الشمس تغيب. الويل لمَن تتوقّف حياته على التوهّج حين لا يعود يتوهّج إلّا الحريق.