خضر سلامةالوطن كالظل، يخرج متلفّعاً بالسواد من عتمة الوحدة، كلما فاجأتك شمس الغربة بضحكة خبيثة. الوطن كالظل، يمسكك من قدميك المتعبتين من المسير والسؤال عن المصير، ويشدك إلى مقعدٍ مرمي على كتف نهرٍ مسافر، يجلس الوطن الظل بقربك، يطعم الحمام من خبز عينيك. وحده الحمام هنا لم يُغره البرد بالهجرة. الوطن يقاسمك تفاحة الذاكرة.
أخطر ما في مخدّر السفر، إدمانه، وأبشع ما في إدمانه، تحوّل العودة إلى روتينٍ موسمي، يصبح الخوف ضرورةً من ضرورات المرحلة. تخاف أن تصبح أغاني فيروز مجرد نوتاتٍ موسيقية جميلة، لا فيء أرزة، وتخاف أن تصبح العائلة سماعة هاتفٍ أسبوعي يقتات أخبار الأفراح والمآتم والولادات الحديثة، لا نافذةً على كتب التاريخ، وتخاف أن يصبح الجوع إلى رغيف الخبز العربي واللبنة البلدية، مجرد جوعٍ، لا هوية.
باريس غانيةٌ جميلة، ونهر السين قوادٌ ماكر، يتقن دور الساحر، ويعرف كيف يقنعك بامتهان الحزن كلما صفعك الثلج. أما العابرون فوق جثث أسئلتك عن الأحوال خلف ستائر الشتاء، العابرون مجرد بطاقات معايدة لعيد ميلاد أول من سبقك إلى لقب «غريب»، مذيّلة بلغاتٍ لا تفهمها ولا تفهمك. ثلاثي الهو والأنا وما فوقهما، معادلةٌ كيميائية خطيرة، تهدد بتفجير دموعك. أيهما أهم، جيبك أم قلبك؟ أيهما أثقل على كفك المرسوم على شكل زنبقة، حقيبة سفرك أم طفل لك ولد بالأمس في كنف صنوبرة، وسميّته جنوبٌ أو شمالٌ أو بقاع؟ أيهما أقرب إلى أذنك، وصايا أمك المتوضّئة بماء الشوق، أم همسة شهوة من شقراء فاتنة تنتظر موعد سريرك؟ أيهما أهون، دفن أقلامك وذكرياتك وثوراتك في ثقبٍ في سقف غرفةٍ تضيق بغربتك الكبيرة، أو دفن أحلامك وآمالك وآلامك عند عتبة دارك في وطنٍ يضجّ بأسواق البغاء والسياسة؟
أسئلة لا تحتاج إلى أجوبة، تحتاج فقط إلى البكاء.
البرد في فرنسا عصفور جميل له رائحة القهوة العربية، يرقص على أصابعك المرتعشة عندما تبحث بين الورق الأصفر عن عنوان وطنك، يؤذن لذكرى خصرٍ من الفضة ما زال طعمه في يديك. البرد عصفور، وأنت أقل من قفص، القفص يملك مفتاحه، ويملك ما في جعبته، أما أنت فمفتاحك كوز رمانٍ نسي جدك أن يخبّئه في حقيبة السفر من أعين الأجهزة. أنت أقلّ من قفص، لا تملك ما في قلبك. كل الأحزان في باريس وفي بوسطن وفي أفريقيا وفي كل الجهات التي تمتص الغرباء، ماركة مسجلة باسم متنسّك من أرض بشرّي، اعتقلته الغربة منذ قرن، فكان معلّمك الأول في حصص الألم والقلم.
برد، مطر، ثلج، ذكريات ونساء وبكاء وساعات من الثمالة بأعين المتشردين، يكفيهم هم باريس كوخاً، ولا يكفيك أنت إلا حضن أمك قلعة، تجمع المعارضين والموالين والمحايدين في حانةٍ صُقلت من نعاس. من يملك منهم ثمن تذكرة الرجعة؟ من منهم سيغلق مطار بيروت أمام الهاربين من العوز ويقنعهم بإيديولوجيا البقاء في حصار اللون الأحمر للأرزة؟ بتحبّو لبنان؟ حبّو ولادو.
أنت أقل من مغترب، أقل من مواطن، وأقل كثيراً من شاعرٍ متشرّد. أنت مجرد طابعٍ بريدي، يلاحق الرسائل ليكتب لأمه، لحبيبته، لصديقٍ غيّر عنوانه. طابع بريدي يعيد كل دقيقة حسابات المسافة بين باريس وبيروت، فيزداد الوطن ابتعاداً في صفحة الأخبار، وتزداد أنت حزناً في صفحات الوفيات.
من يذكر غوار في غربة؟
«أمانة يا حَجّة.. قولي لغربة: قتلتنا الغربة»