أعفى الوالد ابنه من المسؤوليات المادية ليتعلم ويحظى بوظيفة «ورا مكتب». لكن الولد الذي تربّى على هاجس التحصيل المعرفي وحظي بعد طول تنقل بـ«ليسانس» في العلوم السياسية، آثر وظيفة رجل الأمن لأنها تتيح له وقتاً للكتابة وقراءة الروايات الأدبية
رنا حايك
ولد عصام عادل حمد عام 1969 ابناً بكراً لعائلة متواضعة من بلدة كفرشوبا تقطن جديدة المتن، فشهد في طفولته بوادر الطائفية الأولى للحرب الوشيكة. مثّلت تلك الفترة، حتى عام 1975 جنة الطفل المفقودة، لم يعكّر صفوها سوى ذلك «المشكل» بين والدته والجارة التي ينتمي ابنها إلى حزب الكتائب. فوالد عصام كان في الجيش، وشارك في حركة جيش لبنان العربي التي قام بها آنذاك أحمد الخطيب، ما لم يرق محيطه من الجيران، الذين ضيّقوا على أسرته وهو البعيد عنها، لدرجة اضطرته إلى الاستحصال على إذن من بيار الجميل لعبورها حاجز البربارة باتجاه الضاحية الجنوبية في بيروت. عند نقطة الحاجز، رأى الطفل للمرة الأولى امرأة بلباس عسكري. سألته: «لوين رايحين؟» فأجابها «عند بابا».
«بابا» كان حازماً كأيّ عسكري، وطموحاً كأيّ رجل ينتمي إلى البرجوازية الصغرى، لتعليم أبنائه وإنقاذهم من مصير مادي تحكّم به شخصياً. «نَطْ لما شافنا نطّة ما بنساها بحياتي»، كما يذكر عصام. فقد كان شبح العنف قد بدأ بالظهور، وكانت أخبار قد وصلت إلى الثكنة حيث يخدم الوالد، تفيد بأن عائلة قد تعرّضت للاغتيال عند حاجز البربارة.
في الضاحية، التحق الولد بمدرسة كانت ذات مستوى جيد حينذاك، قبل أن تتحول اليوم إلى «دكانة» كما يصفها عصام.
كان متفوّقاً في المدرسة، وخصوصاً في المواد العلمية. مسلسله الكرتوني المفضّل «العالم المجنون» الذي كان يحلم، وهو يشاهد حلقاته، بأن يخترع شيئاً ما ذات يوم. لكنّ عصام لم يكن الحالم الوحيد. فوالده كان يحلم له بمستقبل مرموق وبإنجاز ما، مجرد إنجاز، وفي أي حقل يختاره. هذا الهاجس الذي حكم تفكير الوالد، انتقل إلى الابن بعشوائية تفتقر إلى التوجيه والتركيز.
ظلّت علاقة عصام بالعلوم هي الأقوى، لكن اللغة العربية بدأت تجذبه بعد أن ساعده زميله في الصف، خليل الظريف، على فك طلاسم قواعدها.
«تخرّجت من المدرسة. كنت ضايع. بس عارف إنو لازم كون مهم»، هذا الهاجس جعل الشاب يتنّقل من كلية إلى أخرى في الجامعة. فبعد أن فاتته مواعيد التسجيل في قسم الفيزياء، تسجّل في قسم الجغرافيا. وفي العام التالي، رغم نجاحه في الجغرافيا، إلا أنه فضّل العلوم، متخطّياً مشكلة كانت جوهرية. فقسم العلوم يتضمن مواد باللغة الفرنسية التي يجهلها، مقابل اتقانه الإنكليزية، فما كان من الشاب المثابر إلا أن اشترى كتب التعليم الذاتي وانكبّ عليها ليتقن الفرنسية ويتسجّل في قسم الرياضيات في «معهد العلوم التطبيقية». لكن هاجس التميّز ظل ملازماً له ليؤدي إلى تخبّطه لسنوات. «ما كفّتني الرياضيات. حسّيت إنو طموحي أكتر». فكّر في الالتحاق بالعلوم الاجتماعية، لكنه وجد أن طلابها «كلهن بنات. وكنت وقتها معتبر إنو البنات بيستسهلوا، وأنا بدي الأصعب والمميّز، فغيّرت رأيي!».
العلوم السياسية كانت المحطة الأخيرة، «لكن ما اكتفيت، وحسّيت إنو هدفي ثقافي، ولازم إقرا تأعرف شو بدّي».
أصبح سوق الأحد كزدورة الشاب المفضّلة. من هناك، اقتنى أهم الكتب بأسعار رخيصة، وهناك تعرّف إلى ماركس… والبخاري. لم يضع الوالد على كاهل ابنه أيّ التزامات في البيت، لكنه بدأ يتململ في انتظار «الليسانس» التي لم يلبث أن حصل عصام عليها أخيراً.
في هذه الأثناء، غرق الشاب في سحر الأدب الروسي، ووجد ضالته على يد كباره كدوستويفسكي وغوركي، إلى أن وقعت «حكايات حارتنا» بين يديه، فكانت نقطة مفصلية. عشق نجيب محفوظ، حتى لتكاد تخاله أحد شخوص «أستاذه» كما يسمّيه. قرأ كل كتبه وكل ما كتب عنه بنهم من يكتشف اللغة العربية للمرة الأولى. «أذهلتني قدرته على نقل تفاصيل الحياة اليومية والواقع بأسلوب بليغ ولغة راقية، وألهمتني كتابته لأكتب روايتي الأولى «طموح مخطوطة» وأنشرها عام 1995». لكن عصام «تلميذ» دؤوب، مصرّ على النجاح، ويعتمد الأسلوب المدرسي لتحقيق غايته. لذلك، انكبّ على قراءة لمراجع النحو استغرقت 3 سنوات، بالتوازي مع قراءات أكثر انتخابية لروائيين عالميين كتوماس مان وإدغار ألن بو، إلى أن اهتدى إلى الكاتب فرانز كافكا. كان ذلك في معرض الكتاب عام 2001. يومها، لم يكن في حوزة عصام سوى 20 ألف ليرة، كل ما بقي من راتبه الهزيل كموظف في إحدى شركات الأمن، الوظيفة التي هداه إليها خليل الظريف، زميل الدراسة الذي سبق أن لقّنه سابقاً قواعد اللغة، ثم عاد وظهر ليساعده مجدداً على تطبيق قواعد الحياة، بعد أن بحث عن عمل في مجال تخصّصه وعاد بخفّي حنين.
ورغم أن هذه الوظيفة أحبطت الوالد، إلا أنها أعجبت الابن لأنها تتيح له وقتاً للقراءة خلال الدوام الليلي، ولا تعتمد على مجهود ذهني، ما ينقذه من «استنزاف طاقتي في الكتابة».
لم «يستخسر» عصام آخر 20 ألف ليرة بحوزته في كاتب ككافكا. كان «أستاذي نجيب محفوظ قد ذكره وأشاد به في إحدى المقابلات التي قرأتها له».
أذهله عالم كافكا، وأرّقته رواية «التحول»، فأثّرت على أسلوب كتابته، ليصدر عام 2004 مجموعته القصصية الأولى «المنعطف المضاء»، أتبعها عام 2008 بمجموعة أخرى «أول آكل للحوم البشر»، ليشرع حالياً في كتابة رواية عن الحرب الأهلية اللبنانية.
وفّق عصام بين هاجسه في الكتابة واستمرار حياته العملية بالشكل التقليدي. فتزوج من تلك الصبية المجتهدة التي كانت تسانده في سنوات الدراسة الجامعية كلما دافع أمام الأستاذ المحاضر عن الاتحاد السوفياتي. تلك الصبية التي كانت تهرول مسرعة لتلحق بمحاضرة أخرى قبل أن يجد الوقت ليحادثها، إلى أن «صفّر» لها يوماً وهي خارجة فعتبت على الأسلوب لكنها سرعان ما انسجمت مع «المصفّر». وبعد أن فقد الاتصال بها إثر تنقّله المحموم بين مختلف الكليات، عاد والتقاها بعد ذلك بسنوات صدفة عند درج المحكمة في بعبدا، فاستعاد أحدهما الآخر إثر سؤال بسيط أوضح عزوبيّتهما: «كم ولد صار عندك؟».
اليوم، تساند دينا زوجها وتفتخر به كاتباً، لكنها تعتب عليه لأنه يكتفي بوظيفته كرجل أمن ولا يسعى جدياً لتغيير نوع عمله، ولأنه ينشر كتبه على حسابه الخاص بدل التوجه إلى دار نشر، ما يثقل كاهل العائلة بالمصاريف. أما الوالد، فموقفه ملتبس من ابن لم يحظ في النهاية «بمكتب»، بل يصدر كتباً يهنّئه معارفه عليها، لكنه يعجز عن قراءتها.


دواعٍ أمنية

يوزّع عصام كتبه على المكتبات بنفسه بعد أن يطبعها في مطابع مختلفة كل مرة، «شعبية وموظفوها شعبيون»، مشترطاً سرعة الطباعة حتى لا يتسنى لأحد «سرقة نصوصي». هذا الهاجس جعله يستصدر من وزارة الثقافة .. ترقيماً دولياً لكل كتاب يصدره. يعترف بأنها «عقدة لا أستطيع التخلّص منها. حتى أصحابي، أطلعهم على المخطوطة قبل الطباعة في منزلي فقط».