تستطيع أن تكتب تاريخ فرنسا عبر كتابة تاريخ مثقّفيها وصراعاتهم. لا تستطيع مثلاً أن تكتب تاريخ الحرب العالميّة الثانية وتأثيرها على فرنسا من دون الكتابة عن دور المثقفين (والمثقفات) ومماحكاتهم التي لم تنتهِ. فماذا عن لبنان؟
أسعد أبو خليل*
حاول جان كوكتو أن يتعايش مع الاحتلال وهو الذي رفع الشعار الساخر: «يعيش هذا السلام المُخزي». تحوّل هذا الشعار إلى عنوان لكتاب جديد صدر للتو عن جامعة يال لفريدريك سبوتز، ويؤرِّخ فيه لتعامل مثقفي فرنسا وفنانيها مع الاحتلال النازي. هو الزمن الذي تضمن بطولات وإذعاناً وخيانة وعاد وتضمّن اختلاقاً للبطولات ونفاقاً وادعاءات لم تنته. وراوحت ردود فعل مثقفي فرنسا ضد الاحتلال: منهم من رحل، ومنهم من عاد إلى التسكع في مقاهي باريس مثل دو بوفوار وسارتر، ومنهم من تشرّب عقيدة النازية واللاسامية (مثلما دعا حازم صاغية العرب من اللوبي الصهيوني في واشنطن إلى «تشرّب» عقيدة بوش)، ومنهم من تجرّأ على مقارعة النازيّة ودعم مقاومة الاحتلال، ومنهم من تعايش مع النازية (مثل دور النشر وبعض الصحف التي روّجت للاحتلال، والمواخير والملاهي التي فتحت أبوابها واكتظّت). تُرى، من سيكتب تاريخ مثقفي لبنان؟ من سيكتب عن تعاملهم مع الاحتلال الإسرائيلي أو حتى مع سيطرة النظام السوري؟ البطولات الخيالية تبقى سهلة وجذابة، وخصوصاً في وسائل الإعلام السائد. أتذكّر ذلك المأتم الشهير في بلدة القليْلة الجنوبيّة عام 1972. وقف الخطيب اليساري وصرخ: «من القليلة الحمراء أتحدّاك يا نيكسون». مرّت أشهر والناس في منطقة صور تتحدّث عن ذلك الخطيب اليساري الذي وقف وتحدّى نيكسون. بعد سنة أو أكثر قليلاً تحوّل الأمر إلى نكتة تُروى في ليالي السمر. والبطولة المُختلَقة تُذكّر بجمانة حدّاد التي زعمت في حديث مع صحيفة «الغارديان» أن «مسؤولين» من حزب الله اقتحموا معرض الكتاب في بيروت لإغلاق كشك مجلّتها. يا لشجاعتها.
أما في لبنان الذي مرّ بمراحل وأطوار مختلفة فلم يحن بعد أوان تأريخ تعامل «مثقفيه» مع الجيوش الأجنبيّة التي توالت على أراضيه. تتذكر بعض معلقي جريدة «النهار» مثلاً، بمن فيهم ناشرها غسّان تويني. تتذكر أنه نظّر لـ17 أيار ولعب دوراً رسميّاً في تلك المرحلة المُظلِمة (وأسبغ عليه أمين الجميل صفة «المُنسِّق» للمفاوضات مع إسرائيل)، وتتذكر أنه عاد ونظّر للمقاومة في التسعينيات، وها هو غسّان تويني ذاته يُنظّر للحياد حيال إسرائيل (وهل يعني حياد لبنان غير الحياد في الصراع مع إسرائيل؟). أو ماذا تفعل بكتابات اليساري السابق كريم مروّة (الذي عبّر عن تقديره لملك السعوديّة في «ملحق النهار») الذي أعاد كتابة سيرته الذاتية وكأن أعداد مجلة «الطريق» قد اختفت من كل المكتبات؟ هل هناك من يسائل أو يُحاور هؤلاء عن أسباب تنقّلاتهم الأيديولوجيّة البهلوانيّة وظروفها، وهذا حقهم طبعاً، لكن من حقّنا أن نتساءل وأن نحلّل وأن نلاحظ. من يُذكّر كريم مروّة بأنه كان قد طوّب جنوب لبنان لحزب الله عندما رفع شعار «الأرض لمن يحرّرها» (راجع كتابه بعنوان «المقاومة»، ص. 87)، أو عندما دافع عن مقاومة الاحتلال عبر كل الوسائل بما فيها «العمليات الاستشهادية» واعتبرها «أكثرها نكراناً للذات وأروعها تضحية وسخاءً في العطاء» (ص. 36)؟ صاحبك عاد واكتشف حب الحياة وأسال من الحبر في رثاء الحريري دفقاً لم يُسله من قبل إلا دفاعاً عن لينين وستالين.

«يعيش هذا السلام المخزي»



ويَسأل حازم صاغية في مقالة في نشرة آل الحريري عن نوع الثقافة عند خصومه ممن يؤيّدون مقاومة احتلالات إسرائيل، ويسخر منهم لأن لا ثقافة لديهم. لوهلة، تظنّ أنك تتفق معه. لا تستطيع أن تنكر أن لا ثقافة تُذكر يمكن أن تُحسب لمعارضة المحور السعودي ــــ الإسرائيلي ــــ الأميركي في لبنان. وتنظر في المقلب الآخر، وتتفق مع صاغية في تنويهه بثقافة 14 آذار. في الشعر الملحمي، كيف يمكن ألا تتفق أن ملحمة يحيى جابر في رثاء رفيق الحريري هي قمة الملحميّة الشعريّة، وأن ثقافة 14 آذار تفوّقت في هذا المجال على ملحميّة الإغريق؟ وقصيدة محمد دحلان (وهو من فريقهم، كلّهم في الهمّ جنادريّة) في رثاء محمود درويش تُحسب لهم أيضاً. أما في الرقص، فهناك معلومات أن حازم صاغية (المَعني بترقية الثقافة في إطار 14 آذار) أدخل حركات إيقاعيّة خطيرة وملحوظة على رقصة العَرضة، التي فتنت بوش عند زيارته للمشيخات النفطيّة في الخليج، وسوف يدشّنها في مهرجان الجنادريّة المُقبل. في المسرح، هناك طبعاً مقالة المسرحي بول شاوول: «برافو سنيورة، يا صخرة الديموقراطية»، وهي ذات نفحة بريشتيّة. وهناك من يقول إن هذه المقالة تفوّقت على موهبة شكسبير، لكن في هذا القول بعض المبالغة. في العزف على العود، أنا أسمع أن موفق حرب (خرّيج تلفزيون «الحرّة» للدعاية الأميركيّة) يجيد العزف على العود ويغنّي لمحمد عبد الوهاب. أما في الأغاني المبتكرة، فمثقفو 14 آذار ابتدعوا عدداً هائلاً من الأغاني مثل «بحبك يا رفيق، يا رفيق بحبك» أو «شتّي يا شيخ سعد تيزيد موسمنا» أو «على الجنادرية على الجنادرية» أو «لارميلك حالي... من قريطم» أو «جفن الأمير مقرن علّم الغزل» أو «زيديني مالاً زيديني» أو «موعود... بلقاء الأمير خالد» أو «غداً ألقاك... يا سموّ الأمير» أو «أنت عمري يا نادر الحريري». هذه المواهب والعبقريّة الفنيّة لا يمكن أن ينكرهما إلا الجاحد أو المكابر. أما في فن الرسم، فقصر قريطم يستقبل أسبوعياً مبتدعين رسوماً لرفيق الحريري. أما في فن الرواية، فهناك روايات فارس خشان (أرسين لوبين الصحافة اللبنانيّة) عن التحقيقات البوليسيّة (وهي غير رواياته عن تلك «الكوّة» التي كان يقول إن بشار الأسد يفتحها في جدار العدوّ الإسرائيلي بمجرّد أن يلقي خطاباً).
أما في النقد الأدبي والفني، فهناك طبعاً تلك المقالة لإبراهيم العريس في جريدة الأمير خالد بن سلطان الذي اعتبر فيها أن مبادرة الملك السعودي للحوار مع شمعون بيريز هي أهم مبادرة في «تاريخ البشريّة». لكن ثقافة 14 آذار بلغت أوجها في كتاب منير الحافي «السعودية للبنان: قلوب وسواعد». ويعترف عبد العزيز الخوجة في مقدمة الكتاب بأن العنوان «شَدَّه» (ص.9). يقول الحافي في كتابه المؤشر إلى ثقافة 14 آذار التي يزهون بها، إن «العقلية السعودية... تحب ولا تكره». (ص. 13). أما رجم العشاق والتكفير وقطع الرؤوس فهو، وفقاً لكتاب الحافي، تعبير عن الحب الذي أحياناً يقتل كما يقول مثل شائع. أما الوزير إبراهيم شمس الدين (وهو عَلَم من أعلام ثقافة 14 آذار) فقد قال، ثقافياً طبعاً، «إن الجلوس إلى الملك عبد الله مريح ومُطمئِن» وأنه كان مستمعاً إليه فقط «إلا حين أُسأل». (عدد خاص عن عبد الله بن عبد العزيز من «تاريخ العرب والعالم» ص 160). وهناك ثقافة الدفاع عن لبنان: وهنا لا نستطيع إلا أن نُضمِّن كلمة نايلة تويني قبل أسبوع التي اقترحت فيها سياسة دفاعيّة قائمة على «الرخاء» و«حب الحياة». أي إن لبنان مستعدّ لأن يواجه اجتياحات إسرائيل بالرقص والسهر والدبكة والرخاء في المعاملتيْن.
ثقافة 14 آذار؟ هل هي كامنة في خطب التحريض المذهبي في ليالي قريطم الرمضانيّة؟ أم هي كامنة في رسوم الفنان نديم فتفت، وإن لم يسمع أحد به في لبنان؟ وماذا عن مقالة سمير عطا الله في مديح الأمير مقرن بن عبد العزيز؟ ألا تمثّل إسهاماً فريداً في علم ثقافة الصحافة؟ وماذا عن سياسة المديح المتبادل بينهم في كتاباتهم؟ أم هي في سؤال زاهي وهبي لغسان شربل: «هل هناك سياسة لـ«الحياة»؟ لا، يا زاهي، لا سياسة لآل سعود غير التُقى والورع. وهناك أيضاً إسهامات في الأفلام لثقافة 14 آذار: من يستطيع أن ينسى فيلم «الشيخ سعد فوق الشجرة» أو «دمي ودموعي وابتسامة مصطفى علوش» أو «امبراطورية آل سعود» أو «أريد قرشاً» أو «غرام في الجنادرية» أو «لحن التعاسة»؟ وبهذا، نستطيع أن نثبت صحة مقولة حازم صاغية عن إسهامات ثقافية لا تُنسى لفريق 14 آذار. ومثقفو الفريق يتحلّقون حول وليد جنبلاط، وينبهرون به لأنه يقرأ مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس». هي دليل على إيغال في الثقافة عندهم. يحدّثهم عن تذكّره لفلسطين في لقائه مع... إليوت أبرامز فيهزّون رؤوسهم إعجاباً. يقترح عليهم قراءة بعض الكتب، فيدوّنون أسماءها بسرعة. كان يقترح عليهم أسماء كتب لنعوم تشومسكي أيام سنوات، لا بل عقود، الغشاوة اللعينة، أما اليوم فهو يقترح عليهم كتباً لبرنارد لويس أو عن «بؤر الإرهاب» في مخيمات اللاجئين في لبنان.
لكن لا يمكن نفي انجذاب مثقّفي لبنان (والمثقّفات حتى لا ننسى مساهمة منى فياض في «كيف تكون شيعياً طائفياً في فريق الحريري وتدّعي العلمانيّة») نحو 14 آذار. وانتخابات الجامعات والنقابات المهنيّة تشير إلى انضواء المتعلمين والمتعلمّات في فريق الأكثريّة مهما اختلفت التفسيرات والتحليلات. لكن ثقافة 14 آذار نجحت على أكثر من صعيد، مع أن ثقافة 14 آذار، وإن كان من المشكوك فيه أن صراخ هذا الفريق وشتائمه واتهاماته ستُعدّ نتاجاً ثقافياً، هي إسهام دعائي سياسي يشكو عللاً تدخُلُ في علل ثقافة القمع والتسلّط أينما كان. وهي تستعين بمجموعة من الوسائل والأساليب التي لا تختلف أبداً عن وسائل النظاميْن الوحيديْن اللذيْن يعارضهما أنصار آل سعود في لبنان وأبواقهم.
المفارقة الأولى في سمات ثقافة 14 آذار هي الرغبة بإسكات الصوت المعارض. فديانا مقلّد دعت إلى فرض رقابة على الإنترنت، واستعانت بأمثلة غير صحيحة عن فرض رقابة على الإنترنت في مجتمعات الغرب الديموقراطية. نسيت مقلّد أن الأنظمة العربيّة (السعودية والسورية وغيرهما) تفرض رقابة صارمة على الإنترنت، وتقرير منظمة الدفاع عن الصحافيّين لاحظ أن قمع إعلام الإنترنت هو القمع الإعلامي الغالب في العالم. أي إن مقلّد تريد من الأنظمة العربية فرض مزيد من القمع، فقط لمنع نقد الفريق الذي تمثل في أخبار آل الحريري. وفي باب إسكات الصوت المعارض تحدّث زياد ماجد (وهو «عضو قيادي» في حركة اليسار الحريري، وإن كنا لم نلحظ وجود أي عضو غير قيادي في التنظيم الجماهيري المذكور) في نشرة «المستقبل السلفي» عن «النقد المباح». أواه من هذا التعبير، وهو (يا للصدفة البريئة) المصطلح نفسه الذي استخدمه مثقف سلطان الاحتلال في العراق، فخري كريم، في دعواه على الرفيق سماح إدريس. ويشكو ماجد من ضعف الرقابة في العالم العربي، ويدعو صراحة إلى المزيد منها على الإنترنت خشية أن يتعرّض له أحدٌ بالنقد. ومثقفو 14 آذار يستنكرون الدعاوى القضائيّة التي تطال واحداً منهم، ويؤيّدون الدعاوى ضد كل من لا يهتف بحياة الشيخ سعد والمَلِكيْن عبد الله. ولإسكات الأصوات المعارضة لا يتوقّف كتّاب 14 آذار عن الصراخ ضد الجريدة الوحيدة في لبنان التي تجرؤ على نقد آل سعود وآل الحريري. أي إنهم من أنصار الثقافة المُسيطرة الواحدة على طريقة ما هو جار في الأردن أو سوريا أو السعودية.
لكن أخبث وسيلة في إسقاط الصوت المعارض هي عندما يُحوّل مثقفو فريق 14 آذار الناقد والقاتل إلى شريكين، وهذا ما يعمل عليه طارق متري في حديثه عن «العنف المعنوي» و«الاغتيال المعنوي»، أي إنه سيعتبر أي نقد له بمثابة عمل عنفي. بدأ هذا الأسلوب الذي كان غوبلز بارعاً فيه في مجلة «دير أنغريف» النازيّة في برلين. غوبلز رأى في كل نقد للنازية ولهتلر عملاً مساوياً للقتل والاعتداء يستحق العقاب وحتى القتل. حازم صاغية بدأها في مقالة له في هذه الجريدة عندما اعتبر كتّاب «الأخبار» مشاركين في جرائم الاغتيال في لبنان. وإذا ما تعرّض أحد للاعتداء أو القتل أو حتى لتلبّك معوي، يبحث مثقفو قريطم عن مقالة نقديّة ضد الشخص المعنى ويحوّلونها إلى مضبطة اتهام عدليّة. ما المطلوب؟ يجب أن نسألهم. هناك أخطار ضد الساسة وأهل الصحافة في لبنان. هل المطلوب أن يتوقّف النقد كليّاً كي لا يُتهم الناقد بالقتل أو التحريض، أم يجب أن نأخذ تصاريح بـ«النقد المُباح» ــــ ذلك المصطلح الأرويلي ــــ من هاني حمّود؟ وماذا لو قلبنا المعادلة؟ هل كان نقد وليد جنبلاط لعماد مغنيّة قبل أسابيع من اغتياله مشاركة في التحريض أو القتل؟ طبعاً لا، لكن فريق ثقافة 14 آذار صريح في اتّباعه المعايير المزدوجة. ويصبح عندها المطلوب وقف التهجم والنقد والتهكّم على فريق واحد فقط كي ينعم بالكتابة المُهيمِنة المأمورة ومن دون أي إزعاج أو رد من أي كان. واحد من هؤلاء يناشد أسبوعيّاً المجلس الكاثوليكي للإعلام التدخّل كي يتوقف النقد ضد رسائله العطِرة إلى هاني حمّود، وفيها الكثير من الشجن ومن دفق العاطفة. لكن المسألة أبعد من ذلك بكثير، وهي تتعلق بسمات الحركة الحريريّة.
هناك نزعة نخبويّة طائفية ــــ طبقيّة في 14 آذار، وتجلّت أكثر ما تجلّت في الحديث الصريح في إعلام الحريري عن المعتصمين وعن قاذوراتهم. كاتبة في نشرة المستقبل كتبت بصراحة مذهبيّة تحسدها عليها سحر الخطيب (التي توافقت مع الياس خوري على ضرورة إسكات معارضي آل الحريري وآل سعود في لبنان) أن جمهور الضاحية (غير الراقي) أفسد حفلة لجوليا بطرس. وهذا يفسّر الإصرار المهووس على الحضارة والرقيّ إلى درجة يصبح معها أنصار الطرف الآخر ــــ أو الكثير منهم ــــ عرضة للدفاع عن النفس لإثبات الحضارة والرقي والتقدّم التي يمثّلها سليل الإقطاع الشيعي المهزوم، أحمد الأسعد، الذي عاد كريماً ومقداماً من زيارة الأمير مقرن. والهوس بحركة ميشال عون يعبّر عن ضيق من التأييد المسيحي له، مهما كان حجمه. فالشيعي لا أمل له لأنه متخلّف (ويستعملون براحة شديدة تعابير مثل «حثالة» و«دهماء» و«زعران» في حديثهم عن جماهير الشيعة). ويجهد الشيعي بينهم لكي يَتقبّلوه، فتراه (أو تراها) يزايد عليهم في تحقير الشيعة. ورامي عليق اعتنق ديانة أخرى (كما روى في مذكراته المضطربة) كي يكون مقبولاً منهم. لكن المسيحي ــــ خلافاً للشيعي ــــ حضاري وعليه، بناءً على ذلك، أن يؤيّدهم كي لا يقع أسير تحالف مع هؤلاء الرعاع في الضاحية.
لكن خطاب 14 آذار يخفي (حتى لا نقول ثقافة كي لا نُتهم بتبّني جملة غورينغ الشهيرة عنها) جملة من المآزق والمعضلات. فالحركة لا تستطيع أن تحافظ على انسجام أخلاقي لأن هوّة تفصل بين الأهداف المُعلنة والمُبطّنة (أي إنها تعاني نقصاً كبيراً في المروءة على ما نقل عن تعريفها الأصمعي). فهي بدأت بعد اغتيال الحريري بمدح المقاومة ثم تحوّلت تدريجيّاً للمجاهرة بنزع سلاح المقاومة، حتى قبل أحداث أيار التي عاناها أهل بيروت (وكلّهم من طائفة واحدة منصورة طبعاً) أكثر من معاناتهم في ظلّ الحصار الإسرائيلي عام 1982 على ما نقل لنا تلفزيون آل الحريري. وبدأت الحركة بالإصرار على أن لبنان هو «آخر من يوقّع اتفاق سلام مع إسرائيل». والشعار خبيث ومغرض، وخصوصاً أن جزءاً، وإن لم يكن عزيزاً لديهم، من أرض لبنان لا يزال يرزح تحت احتلال إسرائيل، حتى لا نتحدّث عن فلسطين التي تذكّرها جنبلاط أخيراً. لكن أصواتاً بدأت ترتفع للصلح مع إسرائيل: بدأت بمقالة غير موقعة بالإنكليزيّة على موقع «ناوحريري» ثم في مقالة لنصير يوحنا فم... التنك في نشرة آل الحريري. وهذه الهوّة في المواقف تفسّر الارتباك في الخطاب وفي الشعارات المُتغيّرة.
وهناك عناصر لا تُنكر في ثقافة 14 آذار، تأتي في مقدمها عبادة الرجل الأبيض واعتناق يمينيّة غربيّة وتسميتها بالليبراليّة لسبب من الأسباب. واعتناق فكر الرجل الأبيض بلغ حدّ اعتناق الوجهة الصهيونيّة في معاداة معاداة السامية: فترى الواحد منهم يعترض على أية إهانة ليهودي (وهذا حق طبعاً) لكنهم يبدون عدم اكتراث لقتل الفلسطينيّين اليومي على يد إسرائيل. ومنهم من بات يعترض حتى على شعار تحرير فلسطين، وقد يأتي يوم يقولون لنا فيه إن معارضتنا للصهيونيّة هي بحدّ ذاتها معادية للسامية. ويتقزّز مالك القعقور من عبارات الوصف السلبي التي نُطلقها على إسرائيل. يريدون لنا مسامحة الصهيونيّة على أفعالها لنتماشى مع مخطّط مقرن وبندر. وقد تبنّوا بالكامل الفكر الكتائبي عن ديمومة الكيان المسخ وقدسيّته، بالإضافة إلى اعتناق نسق من الصهيونية اللبنانيّة ذات المنحى الفينيقي. ويعوّض فريق المثقفين المذكور عن ضمور فكره وضحالته عبر الإكثار من استعمال كلمة «توتاليتاري» و«توتاليتارية»، مع أن استعمالهم للمصطلح يوقعهم في إحراج عدم اطلاعهم على كتاب حنة أرندت المرجعي عن الموضوع. وفي إنشائيّاتهم الابتدائيّة عن حب الحرية يذكّرون بتلك العبارة بالإنكليزيّة التي أطلقها أمين الريحاني على إنشائيّة جبران خليل جبران، كما رواها ميخائيل نعيمة في سيرته عن جبران.
ولكن قبل، أو بعد التلهّي بالحديث عن الثقافة السياسية لـ«المسيرة الحريريّة» ــــ كما سمّاها اليساري السابق محمد كشلي ــــ هناك ما هو أهم. فوليد جنبلاط هدّد من على شاشة آل الحريري بأنه «شخصياً» سيدين أية دولة غربيّة «تتخلّى» عن (استعمار) لبنان. تسمع هذا الكلام وتتصوّر اجتماعاً لمجلس الأمن القومي في واشنطن يبحثون فيه مضاعفات تغيير سياسة أميركا نحو لبنان وآثارها على مواقف زعيم 90% من 5% من شعب لبنان التعيس. لكن حبة بطاطا عملاقة نبتت في أرض الجنوب، وتناقلت الخبر وكالات أنباء عالميّة. هل تدخل تلك الحبة في ثقافة 14 آذار أم في ثقافة 8 آذار؟ ولماذا لا تُقدّم مَقليّة في مهرجان الجنادريّة المقبل؟ عندها فقط نعترف لمثقفي 14 آذار بإسهاماتهم الثقافيّة الرفيعة.
* أستاذ العلوم السياسيّة
في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)