هنا يصنع قارئ المستقبل بيسان طي
ـــ السؤال الأول الذي نطرحه عليكم كتاباً وناشرين هو: من هم الأولاد الذين يقرأون، وهل تشترى الكتب في إطار البرستيج؟
بشور: أعتقد أن الأولاد الذين يقرأون هم أطفال المدارس الخاصة المتقدمة التي تهتم بموضوع القراءة، لكن قراءاتهم موجهة للغة أخرى غير اللغة العربية. هناك أيضاً مؤسسات المجتمع المدني التي تهتم بموضوع القراءة والمكتبات العامة والمراكز الثقافية للأطفال، وتتوجه للمدارس الرسمية، هناك تحصل القراءة باللغة العربية. عند الطبقة الوسطى كأن المسألة ضائعة، وهم الغالبية، الطبقة الوسطى هي التي تهتم باللغة العربية، ولكن ليس هناك التحفيز الكافي للقراءة باللغة العربية.
نرى من خلال تجربتنا أن المدارس التي تقر كتب مطالعة للأطفال تشدد على اللغة الأجنبية (الإنكليزية أو الفرنسية).
حطيط: سؤال من يقرأ هو فكرة محيرة قليلاً، عندما كنا صغاراً كنا نقرأ رغم أن أهلنا لا يقرأون، كان ثمة وقت فراغ نريد تمضيته، كنا نقرأ «ميكي» و«سمير» وغيرهما، ولكننا قرأنا نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وجرجي زيدان... كان الكتّاب معروفين دون أن يرشدنا أحد إلى قراءة كتب هذا أو ذاك. ما الذي حدث حتى تحوّل الأطفال عن المطالعة. القراءة لم تكن إلزاماً بل متعة. انتقلت حتى صارت واجباً مدرسياً في لحظة معينة، وصارت القراءة باللغة الأجنبية فقط، وصرنا مضطرين إلى بذل جهد لإعادة تحويلها إلى متعة. طبعاً هناك منافسة اللغة الأجنبية.
ـــ وماذا عن ملاحظات الناشرين في هذا الإطار؟
إدريس: للأسف ثمة شبه موت للقارئ اليوم، ولم يعد الأمر «برستيج»، أيام زمان كنا عندما نقرأ «نشد» البنات، كانت القراءة والثقافة رأسمالاً رمزياً بكل ما للكلمة من معنى، أي إنها قد تحوِّل المرء إلى شخصية عامة، إلى نائب أو وزير، كانت أمراً جذاباً. اليوم صار السؤال عن نوع السيارة، الغرين كارد... طبعاً ذلك له علاقة بانتشار قيم الاستهلاك، وبحال دولتنا، وبمضمون وسائل الإعلام الخالي من أي برنامج ثقافي، وهو مرتبط بحال الصفحات الثقافية التي تهمل أدب الأطفال، لكنّ ثمة شيئاً واضحاً هو أن قارئ أدب الأطفال يأتي إما مع أهل متنورين نسبياً، هؤلاء يأتون بأعداد قليلة نوعاً ما، فرداً فرداً. أو زرافات من المدارس يسألون عن كتاب بألف.
إدريس: أريد أن أتوقف عند أمر مهم تحدثت عنه الدكتورة بشور، أي جمعيات المجتمع المدني، مثلاً جمعية: إقرأ» أو «نسمة» باتتا تنظمان حلقات لقاء بين الكاتب والأطفال في المناطق، لقد جالتا لبنان معهم، ذهبتا إلى مناطق محرومة بل مسحوقة، في صف واحد تلامذة يبلغون من العمر 7 سنوات وآخرون بعمر 15 سنة. هذه الجمعيات تلعب دوراً علينا أن نقدرهبشور: موضوع الاستهلاك مهم جداً، حالياً هناك دور نشر تجارية لدرجة أنها تأخذ الشخصيات الكرتونية وتصنع منها كتباً بلا تكلفة، ولكن مستواها سيئ أيضاً. من جهة ثانية أريد أن ألفت إلى أن هناك مجموعة كبيرة من الأطفال الذين يذهبون إلى المدرسة الرسمية، والذين لا يقرأون بسبب مشكلة ناتجة من الترفيع الآلي، أي إن الولد قد يصل إلى الصف الرابع الابتدائي وهو لا يجيد القراءة والكتابة. هناك أيضاً منافسون كثر للكتاب لا يطلبون من الولد القراءة وبذل الجهد، كالتلفزيون.
توما: أريد أن ألفت إلى أمور إيجابية نشهدها، من خلال تجربتنا مع جمعيات أو وزارة الثقافة، أو من خلال أنشطة ننظمها، نأخذ الكتاب إلى أماكن عامة، لا ندعه دائماً ينتظر، نحن مضطرون لبذل مجهود لتسويق أفكارنا، وهو ما يوازي المجهود الذي نبذله لصناعة هذه الأفكار. بالنسبة إليّ جمالية الكتاب ترتكز على حقيقة أنه مكوّن من حلقات، أي حلقة إن كانت ركيكة أو ضعيفة فإن حياة الكتاب كلها ستتأثر بذلك. ثمة مشكلة أيضاً مع المكتبات، مع كيفية تعاطيها مع كتاب مختلف وأين يُعرض، ثمة مكتبات لا تعطي الكتاب «المختلف» حقه. لكن من خلال بعض تجاربنا نستطيع القول إن ثمة قارئاً، ثمة من يرسلون رسائل إلكترونية يسألون عن إصدارات جديدة. آخرون يدعوننا إلى نشاطات، أو يتابعوننا. المهم في هذا المجهود ليس فقط إقامة نشاط بل خلق قارئ جديد، وخاصة أنه للأسف في عمل الجمعيات والوزارة والصحافة ثمة الكثير من المحسوبيات.
بشور: الجهد الذي تتحدثين عنه صحيح، ولكن هذا ليس دور الكاتب، بل هو تعبير عن خلل، لقد تحول الكاتب هو نفسه إلى ناشر ومسوّق، وعليه هو أن يساهم في خلق وعي للقراءة. هنا تلفتنا المقارنة مع الدول المتقدمة، أذكر مرة في معرض بولونيا، قال لي ناشر دنماركي متحدثاً عن أحد كتب الأطفال إن «هذا الكتاب طبعنا منه 25 ألف نسخة، وبعد شهرين اضطررنا لطباعة 12 ألف نسخة». أما نحن فنبدو كأننا ندافع عن قضية اسمها المطالعة، ربما هذا الأمر الذي دفعني إلى الكتابة.
حطيط: علينا ألا نحمّل الكاتب مسؤولية كبيرة، المجتمع المدني ينشط في لبنان، والمراكز الثقافية تقوم بدور رائع، ودور النشر تقوم بجهد مميز. لكن حلقة الوزارة يجب أن تُقوّى. لو تختار الوزارة سنوياً بعض الكتب، تصدر توصية بأن يقرأها الأولاد، فعلى وزارة التربية أن تتدخل في هذا الموضوع، كتاب الطفل يتطور في لبنان، والمجتمع المدني يلعب دوراً، وثمة ضرورة لوجود من يقدم دعماً أقوى لهذا الكتاب، وأعتقد أنه على الوزارة أن تتحمل مسؤوليتهاتوما: جزء من المشكلة قد يكمن بأن وزارتي التربية والثقافة لا تعملان معاً في هذا الإطار، المشكلة أن وزارة الثقافة تحوّل الكتاب إلى شيء له علاقة بالمتعة، وخطورة دخول وزارة التربية على هذا الخط قد يكمن في تحويل الكتاب إلى شيء مرتبط بالتعليم. من الأسئلة التي صدمتني ونحن نقدم كتاب «شو لون البحر» هدية، هو السؤال الذي طرحه كثيرون «ماذا أفعل به؟»، كانوا يقصدون الكتاب. وعندها أجبناهم بأن يقرأوه لا كواجب أو هدف أو غاية.
إدريس: شئنا أم أبينا ثمة دور للكاتب في بلادنا أكبر مما هو مفترض، عليه أن يلعب دور الكاتب، ودور قائد الحزب ودور النائب الذي يفترض أن يكون نائباً وهو ليس كذلك، ودور المجتمع المدني، صرت أقارن نفسي ببائع الجرائد الذي يحملها على كتفه ويدخل البيوت، صرت أحمل كتبي على كتفي وأنتقل بين الأماكن لأقرأها. لقد ارتبطت أفكارنا بشخصيتنا، وإن لم تكن لنا صدقية، فلا صدقية لأفكارنا، وأنا هنا أتحدث على المستوى السياسي، إضافة إلى أدب الأطفال. من جهة ثانية، لاحظت أن القراء يحبون أن يأتي إليهم الكاتب وأن يقرأ لهم، وتحديداً لصدمتي يحبون أن يأتي الرجل ويقرأ. فهم لم يعتادوا أن يقرأ الرجل، الأب إجمالاً لا يقرأ للأولاد.
ـــ هل يحبون فكرة الحكواتي؟
توما: طبعاً، ففي الأمر فن وإلقاء، ولا يمكن الاستخفاف بذلك.
إدريس: هذه مناسبة بالطبع لنتحدث عن فن الإلقاء، جزء أساسي من شعبية محمود درويش، تكمن في الإلقاء، إضافة إلى نصه المكتوب، يجب أن نتعلم كيف نقرأ القصة...
بشور: حين يقرأ كاتب قصة كتبها يقرأها بعواطف، باندفاع وبحب لما كتبه، ولكنني أريد أن أعلق على أمر أساسي يتعلق بالمؤلف، فكرة المؤلف بالنسبة إلى الأطفال شيء مهم جداً. في دعوة وجهتها لي إحدى المدارس تنبهت إلى لوح في الملعب، كيف تتخيل المؤلف؟ بالنسبة إليهم هو صاحب الشعر المنكوش والنظارات السميكة، وعندما سئل الطلاب: هل هي كما تخيلتموها، كانوا يسألونني بفرح وحشرية: أنت المؤلف؟ ما يعني أن للمؤلف مكانة كبيرة عندهم.
توما: دور الرسامين أمر أساسي، في الدار ... هم يقيمون دورات أو ورشات عمل مع القراء أو أساتذة الفنون.
إدريس: عدا الفائدة التي يكتسبها الكاتب من اللقاء مع الناس، عندما أقرأ نصاً أنظر في عيونهم لألتقط تقييمهم لفكرة أو جملة.
بشور: بعض الأسئلة التي يطرحونها تصدمني، الأولاد أذكياء جداً.
ـــ لكن لا يمكن إنكار أن هناك نسبة كبيرة من القصص التي لا تتوجه إلى ذكاء الطفل، مكتوبة بلغة عربية ركيكة، رسومها تقليدية أو تدخل ضمن إطار الستريوتيب والتعميمات... وبعض المدارس تعتمد هذه الكتب.
توما: هنا يدخل دور الصحافة، كثير من وسائل الإعلام لا ترى كتب الأطفال أدباً، الصحافة لا تلعب دورها، هناك نوع من الاستخفاف أو الازدراء بكتب الأطفال. هذا دور الصحافة أن تكون الكتابة في الصفحات الثقافية عن أدب الأطفال والإصدارات الجديدة.
إدريس: إنه أمر بديهي، ليس هناك كتاب جيد من دون ناقد جيد، نشهد غياباً كلياً أو شبه كلي في نقد كتب الأطفال.
حطيط: هناك مثلاً نشرة «قراءات صغيرة» تحتاج إلى التطوير، ولكنها تجربة جيدة.
ـــ هل يمكننا التحدث عن أسعار كتب الأطفال، البعض يجد أسعار عدد من هذه الكتب مرتفعة، فيبتعد عنها، ويختار الكتاب الرخيص دون الالتفات إلى مضمونه السيئ.
إدريس: بالنسبة إلى كتبي فإنها تباع بسعر معقول، لا نبيع أي كتاب بأكثر من 6 أو 7 آلاف ليرة. لكن مسألة المال تُستخدم أحياناً لتبرير عدم شراء كتب، ولا نجد تذمراً من شراء كتب غالية إن كانت باللغة الفرنسية أو الإنكليزية. تقديم كتاب جيد، بغلاف وطباعة جيدة، أمر مكلف.
حطيط: الناشرون يسعون لتقديم الكتب بأفضل حلة، وهذا أمر مكلف، ولكن يجب أن يلقى عملهم دعماً من جهات مختصة ليُقدم الكتاب للقارئ بسعر أقل.
توما: دور النشر التي أحبها في الخارج، لا يمكنها تقديم ما تقدمه للأطفال لولا الدعم الذي تتلقاه. ولكن في مسألة الدعم خطورة، لا نستطيع الاتكال عليه، سيجعلنا نرتاح إلى أن قضية المبيع أو التوزيع مؤمنة نوعاً ما، ولا نعرف من هم قراؤنا. تكون قضية دعم لكتاب معين، ويذهب إلى أماكن معينة. وأريد أن أشدد على قضية الخيار، أن يكون شراء الكتاب من أولوياتنا.
إدريس: أريد أن أحذر من قضية الكتاب المدعوم، قرأت، مثلاً، كثيراً من الكتب الصادرة عام 2008 عن البيئة وقضايا أخرى في كتب مدعومة، لكنها ليست كتباً أدبية، إنها كتب بمعايير تربوية. عندما عُرضت علي المشاركة في جائزة التسامح لليونيسكو، قلت لهم لماذا لا يكون الحديث عن المقاومة، وعندما رفضوا اقتراحي اعتذرت. قضية الدعم يجب أن ننظر إليها بعين سياسية ناقدة، الخوف من أن تكون الكتابة لخدمة الأجندة السياسية للمموّل.
حطيط: الدعم الذي نطلبه هو الذي تأتي به الدولة أو الوزارات المعنية.
بشور: أعتقد أن المشكلة تكمن هنا، كتّابنا لا يستطيعون الكتابة عن قضايانا، وهذا الأمر أطالب به. ولكنني أريد أن ألفت إلى عدد من الأمور، نلت مرة جائزة التسامح من اليونيسكو عن كتبي، وكان التركيز حينها على قضايا الإعاقة، وقلت في كلمتي إن التسامح الذي يجب التحدث عنه هو تسامح القوي مع الضعيف، لا العكس، بينما يُطلب منا أن نتسامح مع المعتدي، عندما تعتدي علينا إسرائيل المطلوب منها أن تتراجع لا أن يتسامح معها العربي.
في هذه الجائزة كان ثمة كتّاب يطرحون قضايا تهم بلادهم، وقضايا تسامح القوي مع الضعيف. وبالنسبة إلى موضوع الدعم، أنا مع أن يكتب الكاتب، وأن يحافظ على المستوى المميز، والطفل الفقير أو المحروم يجب ألا نقدم له الغلاف أو الكرتون السخيف، عندما نريد تنمية الطفل فعلينا أن نقدم له ما هو متميز. هناك جهات قادرة على تنبي كتب أو ألعاب أطفال وتقديمها للصغار. ولكن من ناحية أخرى يجب أن تبقى الأسعار ضمن سقف معين.
إدريس: جزء من مهمتنا ككتّاب، أن نحاول أن نجعل الناس يحبون الأدب واللغة العربية، دورنا أن نبحث عن تسوية ثورية بين المستوى والقدرة الشرائية.


... بعد انتهاء معرض الكتاب

معرض بيروت العربي الدولي للكتاب، الذي اختتم دورته الأخيرة قبل نحو أسبوعين، شهد ورشات عمل وعروضاً للأطفال، وشمل برنامجه قراءة عدد من الكتب وتوقيع كتب أخرى. يزداد أدب الأطفال حضوراً في المعرض، التجوّل بين الأجنحة كان كافياً للتأكد من هذا الأمر. فترة الظهيرة هي الفترة التي كانت تشهد توافد تلامذة المدارس إلى المعرض بكثافة، وهو الأمر الذي تشهده كل دورات المعرض، تلامذة بصحبة معلماتهم، لكن المراقب لحركة هؤلاء يشعر بأنهم يأتون دون معرفة كافية بالكتب التي يجدر بهم اختيارها. نسبة كبيرة من المعلمين والمعلمات الذين يرافقون التلامذة لم يطلعوا على أدب الأطفال والإنتاجات الجديدة لإرشاد تلامذتهم. أخيراً، كان التجوال في المعرض مناسبة للتعرف إلى أسعار قصص الأطفال، واللافت أن عدداً كبيراً من الكتب المعروضة غير جذابة ورسومها مملة، وتعتمد أبطالاً من شخصيات الرسوم المتحركة، هذه الكتب بالذات تُباع بأسعار رخيصة، ما جعلها بمتناول معظم الأطفال.