وسيم وهبة *في الواقع، ينقسم الفقه والاجتهاد على القيمة القانونية للوثيقة؛ فالدكتور إدمون نعيم يقول إن «وثيقة الطائف لا تلزم الدولة اللبنانية ولا مؤسسات الدولة اللبنانية. صحيح أنها طرحت على المجلس النيابي، والمجلس النيابي وافق عليها، لكن الموافقة المذكورة ليست بالقانون ولا يمكن بشكل من الأشكال أن تعدّ ملزمة للدولة اللبنانية بأية مؤسسة من مؤسساتها. وثيقة الطائف تُعدّ مصدر وحي للسلطات اللبنانية، بمعنى أن السلطات اللبنانية بإمكانها أن تستند إلى ما ورد في وثيقة الطائف من أجل إدخال كل ما ورد فيها أو بعضها في القوانين الأساسية اللبنانية».
وبالفعل، يتابع الدكتور نعيم، «طرحت على المجلس النيابي مشاريع تتضمن بعض ما ورد في وثيقة الطائف. والمجلس النيابي تبنى المشاريع التي وردت إليه فصدق بعضاً من التعديلات بحرفيتها والبعض الآخر صدّق بتصرف، أي تعديل ما ورد في الوثيقة عينها. نأخذ الوثيقة ونقرأ ما ورد فيها من نصوص لنطرحها على الدولة اللبنانية من أجل تبنيها أو عدم تبنيها، لأن هذه المبادئ والقواعد لا تلزم بحد ذاتها الدولة اللبنانية».
ويرى الدكتور فؤاد بيطار في دراسة أخرى أنّ «وثيقة الوفاق الوطني، على الرغم من التغطية العربية والأوروبية والدولية التي حظيت بها، وعلى الرغم من مصادقة مجلس النواب اللبناني عليها، فقد ظلت الوثيقة سياسية دون أن تتخذ الصفة الإلزامية المادية كما هي حال القوانين. ذلك لأنها لم تصدر عن رئيس الدولة ولم تنشر في الجريدة الرسمية. ووفقاً لأحكام الدستور اللبناني، فإن القواعد السياسية لا يمكنها أن تصبح قواعد قانونية ملزمة إلا إذا تحققت لها الشروط المادية التالية:
ـــ يجب أن يقرها المجلس النيابي بصفته التشريعية لا بصفته السياسية.
ـــ يجب أن تصدر عن رئيس الدولة.
ـــ يجب أن تُنشر في الجريدة الرسمية حسب الأصول.
من هذا المنطلق، نستطيع أن نقول إنّ مجموعة القواعد والمبادئ التي وردت في وثيقة الوفاق الوطني، لم تتكرس بالعرف الدستوري أو القانوني لعدم توافر عناصره المادية والمعنوية حتى الآن. ولهذا، فقد ظلت وثيقة الطائف بحد ذاتها وفي نصها الأصلي مجموعة من القواعد السياسية ليس إلا.
بالمقابل، هناك وجهة نظر مغايرة تعطي لأحكام الوثيقة قيمة دستورية. ويرى العميد إبراهيم شيحا «أنه بعد تصديق مجلس النواب عليها، تكون لأحكام وثيقة الوفاق الوطني القوة والقيمة ذاتهما اللتان تكتسبهما القواعد التي تضمّنها الدستور اللبناني نفسه، وهو الأمر نفسه بالنسبة لما تضمنته مقدمة الدستور من أحكام، فيكون لجميع هذه القواعد قوة القواعد الدستورية وقيمتها.
ويبرر العميد شيحا موقفه هذا، بأن وثيقة الوفاق قد تضمنت العديد من القواعد المتعلقة بنظام الحكم في الدولة اللبنانية، فضلاً عن تلك التي تمس الاتجاه الفلسفي أو الأيديولوجي في الدولة.
وبالتالي فإن هذه القواعد والأحكام التي تضمنتها وثيقة الوفاق الوطني تعدّ ـــ ودائماً بحسب رأي العميد شيحا ـــ من الناحية الموضوعية قواعد دستورية. ويخلص العميد شيحا إلى أن أغلب القواعد التي تضمنتها وثيقة الوفاق الوطني اللبناني أو مقدمة الدستور ذاته، لها صفة القواعد المنهجية أو الإرشادية التي تتطلب تدخلاً من المشرع العادي حتى توضع موضع التطبيق.
إلاَّ أننا لا نرى فارقاً بين هذه القواعد والقواعد التقريرية من حيث قوة إلزامها، فكلتاهما قواعد لها طابع القواعد الدستورية ولها قوة هذه القواعد من حيث التدرج في النظام القانوني، ومن ثم لا يستطيع المشرع العادي مخالفتها وإلا عُدّت التشريعات الصادرة عنه غير دستورية، وحق للمجلس الدستوري القضاء بعدم دستوريتها.
وقد أعطى المجلس الدستوري في هذا الموضوع عام 2002 بعدما تقدم عدد من النواب بمراجعة ترمي إلى إبطال القانون رقم 379 (الضريبة على القيمة المضافة) تاريخ 14/12/2002، قراراً جاء فيه أنه «من الرجوع إلى ما يدلي به المستدعون من مبادئ وخطوات مدرجة في وثيقة الوفاق الوطني، لا يتبين أنها أُدرجت جميعها كما وردت في الوثيقة في مقدمة الدستور أو في متنه، أو أنها تؤلف جميعها مبادئ عامة ذات قيمة دستورية. وبما أن المجلس يرى أنه بقدر ما تتضمن وثيقة الوفاق الوطني نصوصاً أُدرجت في مقدمة الدستور أو في متنه، أو مبادئ عامة ذات قيمة دستورية، بقدر ما تكون مخالفة تلك النصوص والمبادئ خاضعة لرقابة المجلس الدستوري.
وبالتالي، فإن رأي المجلس الدستوري هو أنه ما لم تدرج كل أحكام الوثيقة في متن الدستور أو مقدمته، فإنه لا يمكن أن يكون لهذه الأحكام أية قيمة دستورية.
وبعد استعراض آراء الفقه والاجتهاد عن القيمة القانونية لوثيقة الوفاق الوطني فلا بد من إبداء الملاحظات الآتية:
أولاً: لا بد من الإشارة إلى أنه قبل إجراءات التعديلات الدستورية عام 1990، جاء في قرار مؤتمر القمة العربية غير العادي في الدار البيضاء الذي انعقد بتاريخ 23-26/5/1989، أنه بعد التصديق على وثيقة الإصلاحات السياسية، ينتخب مجلس النواب رئيس الجمهورية الذي يؤلّف حكومة وفاق وطني تلتزم بوثيقة الإصلاحات السياسية، وتبدأ على الفور في اتخاذ الإجراءات الدستورية لوضع هذه الوثيقة موضع التنفيذ، ويعدل على أساسها، باعتبارها وثيقة دستورية، النظام السياسي اللبناني بما يحقق سيادته الوطنية وتؤكد وحدته وهويته العربية ويرسي مبادئ الحرية والعدل والمساواة.
ثم صدّق هذه الوثيقة مجلس النواب اللبناني المجتمع في القليعات. وكما هو معروف، فإن مجلس النواب هو مؤسسة دستورية، تصدر قواعد قانونية بصفتها سلطة تأسيسية منشأة. ويمكن اعتبار القواعد التي تضمنتها الوثيقة، قواعد تتعلق بشكل الدولة ومؤسسات الحكم فيها، وهي تتعلق بتحديد الاتجاه الأيديولوجي والفلسفي الذي يجب أن تسير عليه سلطات الحكم في الدولة.
بعد التصديق على وثيقة الوفاق، جرى، بتكليف الدكتور سليم الحص، تأليف حكومة الوفاق الوطني بتاريخ 13/11/1989. وقد جاء في المرسوم الذي وقعه الرئيس الراحل رينيه معوض «أن رئيس الجمهورية، بناءً على الدستور، التزاماً بوثيقة الوفاق الوطني....». ومعنى هذا أن تكليف الدكتور الحص قد حصل التزاماً بالوثيقة.
ثانياً: جرى تعديل الدستور عام 1990 حيث جاء في عنوان القانون الدستوري رقم 18 الصادر في 21/9/1990 «القانون الدستوري الرامي إلى إجراء تعديلات على الدستور تنفيذاً لوثيقة الوفاق الوطني».
زد على ذلك، أنه جاء في المادة 24 من الدستور أنه: «بصورة استثنائية، ولمرة واحدة، تملأ بالتعيين دفعة واحدة وبأكثرية الثلثين من جانب حكومة الوفاق الوطني، المقاعد النيابية الشاغرة بتاريخ نشر هذا القانون والمقاعد التي تستحدث قي قانون الانتخاب، تطبيقاً للتساوي بين المسيحيين والمسلمين، وفقاً لوثيقة الوفاق الوطني...»، وهذا يعني أن الدستور قد عدّل تنفيذاً لوثيقة الوفاق الوطني، وهذا إن دل على شيء، فإنه يدل على أن الدستور قد عدّل وفقاً لقانون مساو له في الهرم الذي تتألف منه القواعد القانونية في لبنان. إذ لا يمكننا أن نعدل دستوراً تنفيذاً لقانون ما، ولا يمكننا أن ندخل تعديلات على قوانين وفقاً لمراسيم مثلاً.
يتضح مما تقدم، أن لوثيقة الوفاق قيمة دستورية لا تقل شأناً عن الدستور أو عن مقدمته. وبما أنه لا يمكن إدراج كل بنود الوثيقة في متن الدستور أو في مقدمته، فإنه لا يمكن النظر إليها إلا كأحكام منطوية على تعهدات وطنية بحيث يجب تحصينها وحمايتها من كل خرق تماماً كما نحمي الدستور.
وخلاصة القول إن لوثيقة الوفاق الوطني قيمة دستورية لا يجوز المساس بها، والمرجع الذي يمكنه أن يحمي هذه الوثيقة هو المجلس الدستوري الذي بإمكانه إعلان بطلان أي قانون يخالف هذه الوثيقة، بعد إعلان القيمة الدستورية لأحكامها.
وبعد تحديد القيمة القانونية للوثيقة التي يمكن اعتبارها بمثابة الدستور، لا بد من البحث عن الآلية اللازمة لتعديلها.
2ـــ آلية تعديل الوثيقة: تنص المادة 76 من الدستور على أنه: «يمكن إعادة النظر في الدستور بناءً على اقتراح رئيس الجمهورية، فتقدم الحكومة مشروع القانون إلى مجلس النواب». كما تنص المادة 77 على أنه «يمكن أيضاً إعادة النظر في الدستور بناءً على طلب مجلس النواب، فيجري الأمر حينئذ على الوجه الآتي:
يحق لمجلس النواب في خلال عقد عادي وبناءً على اقتراح عشرة من أعضائه على الأقل، أن يبدي اقتراحه بأكثرية الثلثين من مجموع الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس قانوناً بإعادة النظر في الدستور. على أن المواد والمسائل التي يتناولها الاقتراح يجب تحديدها وذكرها بصورة واضحة، فيبلّغ رئيس المجلس ذلك الاقتراح إلى الحكومة طالباً إليها أن تضع مشروع قانون في شأنه، فإذا وافقت الحكومة المجلس على اقتراحه بأكثرية الثلثين، وجب عليها أن تضع مشروع التعديل وتطرحه على المجلس خلال أربعة أشهر. وإذا لم توافق فعليها أن تعيد القرار إلى المجلس ليدرسه ثانية، فإذا أصرّ المجلس عليه بأكثرية ثلاثة أرباع مجموع الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس قانوناً، فلرئيس الجمهورية حينئذ، إما إجابة المجلس إلى رغبته، أو الطلب من مجلس الوزراء حله وإجراء انتخابات جديدة في خلال ثلاثة أشهر، فإذا أصرّ المجلس الجديد على وجوب التعديل وجب على الحكومة الانصياع وطرح مشروع التعديل في مدة أربعة أشهر».
بعد هذا الاستعراض، يمكننا القول إنه يمكن تعديل وثيقة الوفاق بكل بنودها، حتى تلك التي لم تُدخل في الدستور، بالآليات نفسها التي يعدل بها الدستور. وهذا الرأي يذهب باتجاه ما عبر عنه الرئيس نبيه بري بأن الطائف ليس كتاباً مقدساً، ويمكن تعديله إذا أجمع اللبنانيون على ذلك. وبالتالي فإنه لا مانع مثلاً من اعتماد النظام النسبي في قانون الانتخابات، أو تقرير انتخاب رئيس الجمهورية من الشعب مع توسيع لصلاحياته، وإلى ما هنالك من إصلاحات يجمع اللبنانيون على ضرورة إعادة النظر بها.
* باحث دستوري