محمد شاويشالانتفاضة اليونانية التي ما زالت منذ أكثر من أسبوع مشتعلة، هي في رأيي أحد أهم الأحداث في السنوات الأخيرة، ومن الغريب أن الصحف العربية، بل ومواقع الإنترنيت العربية أيضاً، يمينيّيها ويساريّيها وليبراليّيها ودينيّيها لم تبدِ بها الاهتمام اللائق بحجمها وبأهميتها بالنسبة إلى منطقتنا لأنها لا تجري في مكان بعيد بل عند الجيران. وقد وصفتها بالانتفاضة قصداً لأنها تبدي شبهاً كبيراً بأحداث الانتفاضة الفلسطينية الأولى (نذكر بالمناسبة أن تلك الانتفاضة بدأت أيضاً بمقتل مواطنين فلسطينيين في حادث رآه الفلسطينيون مدبراً). وأظن أنّ من احتك ذات يوم بأهل اليونان، لن يستغرب هذا التشابه. ففي اليونان، وحتى عهد قريب، كان هناك تعاطف كبير مع الشعب الفلسطيني بل مع القضايا العربية عموماًَ، ولم تخفت شدته إلا في السنوات القليلة التي مرت على تسلط الليبرالية الجديدة في العالم.
ومن الواضح أن النكسة الخطيرة التي تعانيها هذه الليبرالية مع الأزمة المالية المتفاقمة كان من نتائجها انبعاث الروح في اليسار اليوناني الذي تشير الدلائل إلى أنه هو من يقود هذه الانتفاضة محركاً قطاعات الشباب الساخطين على السياسات اليمينية المتشددة لحكومة حزب الديموقراطية الجديدة. فاقتباس أشكال الانتفاضة الفلسطينية، ليس غريباً والحال هذه، ونعود إلى الانتفاضة اليونانية التي لا نجد عنها مواد مهمة باللغة العربية: نستطيع بالعودة إلى بعض مواقع الإنترنت الإنكليزية لنفهم بعض مجرياتها.
ومن هذه المواقع مثلاً «الديموقراطية الآن» Democracy Now حيث نقرأ مثلاً مقابلة مع أحد طلاب الجامعة الناشطين يشرح مجريات الانتفاضة التي بدأت بالاحتجاج على حادث واحد لتتحول إلى حركة يشارك فيها عشرات الألوف من الطلاب بدءاً من التلاميذ في سن الثانية عشرة! (لنتذكر هنا مشاركة الأطفال الفلسطينيين في الانتفاضة التي كانت بالنسبة إلى كثير من الأوروبيين أمراً غير مفهوم!).
وشاركت قطاعات واسعة في هذه الحركات من نقابات العمال إلى اتحادات معلمي الجامعة إلى الطلاب طبعاً. ولم تقتصر التحركات كما هو معلوم على اليونانيين داخل اليونان بل امتدت تحركات التضامن معهم إلى خارج البلاد.
ما نستشفّه في تلك المواقع الإنكليزية، ظاهرة مهمة هي التي أريد لفت انتباه القارئ إليها في هذا المقال: إن الانتفاضة اليونانية من الممكن أن تكون إرهاصاً لنوع جديد من الانتفاضات أسميه «انتفاضة المهمشين». لا يتعلق الأمر هنا لا بطبقة العمال القديمة التي خاضت (أو خيضت باسمها) انتفاضات أوروبا في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ولا بالأقليات العرقية والفقراء العائشين بلا أمل في ضواحي المدن الكبرى (وهم الذين تكلم عنهم في الستينات والسبعينات منظّرون مثل هربرت ماركوز صاحب «الإنسان ذو البعد الواحد» ولعل القراء من ذوي الذاكرة القوية ما زالوا يذكرونه بعدما غرق في النسيان عند أغلب المهتمين بالفكر الأوروبي الحديث)، بل نحن الآن إزاء ظاهرة جديدة بحق، تنامت في المراكز الصناعية الكبرى في العالم في السنوات الأخيرة ألا وهي ظاهرة «المهمّشين».
في موقع «الديموقراطية الآن» المذكور أعلاه مقابلة مع ناشط من نشطاء هذا التحرك (اسمه نيكوس لونتوس) يسوّق الأسباب الآتية للانتفاضة القائمة: «إنها مزيج من الأمور: لدينا حكومة حزب حاكم في غاية اليمينية اسمه «الديموقراطية الجديدة» حاولت أن تقوم بهجمات عديدة على العمال والطلاب، ولا سيما الطلاب.
إن الطلاب كانوا نوعاً من فأر التجارب للحكومة وعندما انتخبت عام 2004 حاولت خصخصة الجامعات التي هي في اليونان ملكية عامة، ووضعت عوائق أكثر تحول دون وصول التلاميذ إلى الجامعة.
إن العبء المالي الملقى على كواهل العائلات الفقيرة التي تريد تعليم أولادها هو حقاً كبير في اليونان، والأسوأ أنك حتى لو حصلت على درجة جامعية بل حتى لو كنت طبيباً أو محامياً فإنك في معظم الحالات ستحصل على أجر هو دون مستوى الفقر في اليونان. بحيث إن معظم شباب هذا البلد، يظلون يعيشون مع عائلاتهم حتى نهاية عشرينيات عمرهم، وكثيرون منهم يبقون حتى الثلاثينات. وهكذا، فإن هذا المزيج مترافقاً مع الأزمة الاقتصادية والحكومة الضعيفة غير المستقرة هو الذي كان خلف الانفجار».
ذكر الطالب هنا وضعاً لا يخص اليونان وحدها، هو وضع انتقال غالبية الأيدي العاملة المتعلمة إلى وضع بطالة أو وضع تضطر فيه إلى القيام بأعمال مؤقتة بعيدة عن تخصصها الأصلي، لا تكفل لها الشعور بالمشاركة في الحياة المنتجة، بل يرافقها دوماً الشعور بأنها موضوعة قسراً على هامش المجتمع.
وإذا كانت الدول الصناعية الأغنى من اليونان، تستطيع حتّى الآن الحيلولة دون سقوط هذه الشريحة التي أصبحت عملياً أغلبية في عداد سكان الدول الصناعية الغربية في براثن الفقر الشديد، فمن الواضح أن اليونان لم تستطع تحقيق ذلك.
إن هذه الشريحة التي وضعت على الهامش بحكم طبيعة تطور النظام الرأسمالي في آخر مراحله، هي التي ينتابها الشعور المتزايد بالعجز عن التأثير.
من هنا، يمثّل تململ هذه الشريحة ظاهرة جديدة لا تشبه تململ أو سخط الشرائح القديمة التي أشرنا إليها في بداية هذا المقال. إن هذا التململ هو ذو «طابع وجودي» إن صحّ التعبير، بينما غلب على التململات القديمة الطابع الاقتصادي الصرف. فالسؤال الذي يطرح نفسه على متخرج الجامعة المهمش الآن هو: من أنا في المجتمع؟ لماذا أنا بعيد عن القيام بأي دور؟ لماذا يفرض علي أن أؤدي عملاً هامشياً بينما أنا أتقن عملاً آخر؟
إن هذا الشعور بالإقصاء كان حتّى الآن معززاً باقتناع ذاتي بأن الحال لا يمكن أن تكون على نحو آخر. فالرأسمالية الحديثة أقنعت مواطنيها بأن الإنتاج الحديث يتطلب قدراً قليلاً من الأيدي العاملة، ويستحيل تجنب البطالة، التي يقول عنها المفكر السيريلانكي أ. سيفاناندان رئيس تحرير مجلة Race & Class: «في الماضي كان العمال يريدون الخلاص من رأس المال، الآن يريد رأس المال التخلص من العمال!». وكان المهمشون يقبلون تهميشهم على مضض ملتهين بالقدر من الاستهلاك الذي كانت الرأسمالية الغنية ما زالت قادرة على توفيره. الآن مع الانهيار الاقتصادي لن يعود بإمكان الاقتصاد أن يسير بالأقلية العاملة التي تسيره، فهو (كما نرى في صناعة السيارات الأميركية وقطاعات الخدمات أيضاً) ستتوقف قطاعات مهمة منه عن العمل.
الآن، مع ظهور منافسين أقوياء من الشرق، يتوقع أن ينهار بصورة متزايدة إمكان الإلهاء بالاستهلاك في مجتمع يحتكر الترف. إننا على أبواب تمرد للهامشيين.