البحر بيضحك ليه»؟ ربما لأن مياهه المالحة وصلت إلى حنفيات بيوت مخيم برج البراجنة، التي تجد نفسها مضطرة لاستخدامها في الاستعمال المنزلي، بعدما يئس الناس من إمكان الحصول على مياه صالحة للشرب أصبحوا يشترونها
قاسم س. قاسم
يستمد المخيم، الواقع في «جورة» تحت مستوى البحر، مياهه من آبار إرتوازية يبدو أنها، لسبب ما، امتلات بمياه البحر. هكذا، تخلّى الناس عن الصابون الذي فقد «رغوته» بسبب الملوحة، مستبدلين إياه بالشامبو الذي يستطيع أن يرغي ويزبد على الرغم من الملوحة القاتلة. فحين تصل نسبة الملوحة إلى 20%، لا الصابون يعود نافعاً، ولا .. حتى التمديدات الصحية التي تآكلت شيئاً فشيئاً مع الوقت. إضافة إلى هذه «الضحايا» التي لا تعوّض إلا بثمن كبير بالنسبة للفلسطينيين الفقراء، تقع ضحايا أساسية أخرى، لكنها مؤثرة، كالغسالات مثلاً والأقل تأثيراً كخلاطات الصنابير، التي من الممكن استبدالها دون التعرض لفقدان «الخميرة والفطيرة». أما الضرر الأهم، بالطبع، فهو يقع على الناس. وإن كانت ملوحة المياه لا تقتل، لكنها تصيبهم بأنواع من الحساسيات والطفرات الجلدية، لا تحتاج في انتشارها إلا إلى بشرة ناشفة جففت الملوحة «ريقها».
إحدى عشرة بئراً ارتوازياً تنتشر في المخيم، توزع منها المياه على ثمانية عشر ألف نسمة. ولا شك في أن حفر الآبار ووجودها في المخيم مثّل فارقاً كبيراً عن البدايات. ففي بدايات تكوّن «مخيم برج البراجنة» (عام 1949/1950) كانت عملية إحضار المياه إلى الخيم تتطلب اجتياز كيلومترات عدة على الأقدام، وتحديداً إلى منطقة المنشية. فكانت النسوة يشترين الماء من عند الشهير عباس عبيد. «كنّا نعبّيها، ونحملها بالحلل (قدور نحاسية) على رؤوسنا»، بحسب الحاجة أم أحمد مصطفى. وفي عام 1970 تذكرت منظمة الأونروا مهماتها، فأنشأت «حاووزاً» كبيراً لتوزيع المياه عبر وصله بأنابيب من «المنشية»، في المنطقة التي تقع مقابلها اليوم «رابطة ترشيحا» في المخيم. فَرِح الأهالي بذلك، وبالموظف المنتدب من بينهم لتعبئة الماء. فقد أمّنوا بذلك عصفورين بحجر واحد: وظيفة للموزع الشاب في وقت يجد فيه الفلسطينيون صعوبة في تأمين عمل، ومياه للأهالي المتعبين من نقل المياه على رؤوسهم.
تطورت شبكة المياه في المخيم مع الأيام، ثم حفرت «حركة فتح» البئر الأولى التي أصبح اسمها «ميّة فتح». ولا يزال كبار السن في المخيم يذكرون افتتاح هذه البئر عام 1974، والذبيحة التي قدّمت على شرفه. توالى حفر الآبار فأصبح لكل منطقة بئرها أو «حاووزها». ثم أوكِل تأمين المياه لكل حاووز إلى مصلحة مياه عين الدلبة حينها. فيما تكفلت «الأونروا» بدفع كلفة 90 متر ماء عن كل «حاووز». كانت نوعية هذه المياه جيدة و«أفضل من اليوم»، «حتى أننا كنا نشرب منها» يقول أحمد مصطفى مسؤول «الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين» في مخيم برج البراجنة. ولكن، مع استمرار مأساء الفلسطينيين، وتأخر رجوعهم إلى بلادهم، ازداد عدد المقيمين في المخيم وامتد إلى التلال المحيطة به، فلم تعد المياه تكفيهم. عندها، بدأت اللجنة الشعبية في المخيم بحفر المزيد من الآبار الارتوازية لتأمين المياه للمقيمين.
أما اليوم، فيشاهد الناظر إلى أعلى أثناء مروره في المخيم «سماءً» تتقاسمها، إلى الأسلاك الكهربائية ..»نباريش المياه»، في تجاور أقل ما يمكن القول فيه إنه خطر. أما في المناطق الداخلية للمخيم، فهناك سلسلة من «العيارات» لتوزيع المياه، ولكل منزل عياره الخاص حسب استهلاكه، الذي يدفع سعره وإيجاره الشهري للجنة الشعبية. تبدأ التعرفة بخمسين ألف ليرة بدل تركيب «نبريش» من العيار إلى منزل صاحب الاشتراك. ثم تصبح التكلفة ألفي ليرة شهرياً، هي قيمة الاشتراك الشهري في «عيار» اللجنة. أحياناً، لا تصل المياه إلى المناطق الداخلية في المخيم. نتحدث تحديداً عن جهة طريق المطار، وذلك نتيجة ارتفاعها جغرافياً عن باقي المخيم. وإذا وصلت فهي «تأتي يوم ايه يوم لأ». ساءت نوعية المياه بعد اجتياح 1982 فازدادت ملوحة لأسباب علمها عند الله. ما جعلها غير صالحة لشيء إلا للاستعمال الشخصي. وربما تجدر الإشارة إلى أن المواطن اللبناني القاطن على أطراف المخيم، يقاسم الفلسطينيين هذه المياه. وهي مشاركة أدت إلى إقامة مراكز لتكرير المياه وبيعها في الجهتين، يتبادلانها أحياناً خلال الأزمات.
اليوم، لم يعد في مخيم برج البراجنة أماكن تتسع لحفر المزيد من الآبار. وبما أنه لم يعد هناك متسع أصلاً للناس، يفضل أهل المخيم، إن توافرت قطعة ولو بسيطة من الأرض، أن يبنوا عمارة بطوابق تتسع للمزيد من السكان، بدلاً من حفر بئر إضافية لا تعطيهم إلا مياهاً «تأخذهم إلى البحر وتردهم عطشانين».