حسين بن حمزة
حين يتعلّق الأمر بإنجاز بورتريه لشخص مثل رفعة الجادرجي، وحين يكون اللقاء في منزله الذي صمّمه بنفسه، لا بدّ من أن تشعر بفضول من نوع خاص، وتسأل نفسك: كيف يسكن هذا المعمار العراقي الكبير؟ اللقاء يتحول إلى فرصة لمعاينة تنظيرات وآراء الرجل الذي بات اسمه ملازماً لمفردة «العمارة» حيثما ذكرت. ما إن يقول أحدنا «عمارة»، حتى يتبادر اسمه إلى أذهاننا، كأنّه أحد مخترعيها وليس أبرز دارسيها وممارسيها فقط.
في الحادية عشرة قبل الظهر، حسب الموعد، تجده بانتظاركَ مع كوب الشاي الانكليزي في يده. تكتشف أنكَ خرقت طقساً متبعاً بينه وبين زوجته بلقيس شرارة، إذ يجمعهما الشاي مرتين يومياً. في الحادية عشرة والخامسة عصراً. رغم إنجازاته الضخمة وشهرته الواسعة معماراً، إلا أنّ الشاب رفعة ابن كامل الجادرجي الصحافي والشخصية الوطنية العراقية وصاحب جريدة «الأهالي»، هاوي الموسيقى وكتابة الشعر بالإنكليزية، كان يرغب في دراسة الكهرباء! قبل أن يقنعه مترجمٌ يعمل في جريدة والده باختيار العمارة. ثم انتظر سنة كاملة ريثما تنتهي الحرب العالمية الثانية، كي يلتحق بـ«مدرسة هامرسميث للحِرف والفنون».
مع عودته متخرّجاً سنة 1951، كان عليه أن يواجه النظرة الوضيعة التي يكنُّها الجمهور العريض للحرفي. الناس الذين يحتقرون أصحاب الحرف، وجدوا أنفسهم أمام معضلة غريبة وهي أن يستوعبوا فكرة أن يحمل الحرفي شهادة عليا. يقول الجادرجي: «الفكر العربي عموماً لا ينظر باحترام إلى العمل الحرفي. المقام الاجتماعي حكر على شيخ القبيلة ورجل الدين ورجل السلطة والمشعوذ. هذه النظرة تزعزعت. أول من فرض نفسه في العراق هو المهندس مدحت علي مظلوم الذي عملتُ في مكتبه سنة كاملة قبل سفري إلى بريطانيا». هذه النظرة ـــ على أيّة حال ــــ ستتدخّل في رسم مسيرة الجادرجي الذي سُجِّلت باسمه، وباسم جيله من رعيل المعماريين الأوائل، أول الطموحات التي تحقّقت في حقل العمارة كفن وفلسفة وليس كحرفة فقط.
أسس المتخرّج الجديد شركة «الاستشاري العراقي» سنة 1952، وسرعان ما بدأ اسمه يلمع وأعماله تزدهر. يبتسم حين تقول له إنّ صيته مصمماً وبانياً لنصف بغداد قابل للتصديق، بسبب منجزاته الكثيرة. يحدثك عن نظريته في «جدلية العمارة» وتقاليد البيت البغدادي، وكيف وجد حلولاً لخلق بيئة ملائمة لأفكاره وتصوّراته الحديثة داخل العمارة العربية والإسلامية: «اشتغلتُ على مواءمة ما تعلّمته وشاهدته في الغرب، مع متطلبات البيئة المحلية لناحية المناخ وتقاليد السكن وطرائق العيش. حاولت مزج الحداثة والتكنولوجيا مع الطابع المحلي الذي أعمل فيه. لكن هناك نقطة مهمة جداً، هي أنّي لم أخضع للتراث بل أخضعته لكي يتكيَّف مع طريقة عملي».
أنجز الجادرجي مئات المشاريع والتصاميم: دائرة البريد، مبنى البرلمان، نقابة العمال، وزارة الصناعة، المجمع العلمي العراقي... نسأله عن عمليه الأشهرين: نصب الجندي المجهول، ونصب الحرية المأهول بمنحوتات جواد سليم: «بعد ثورة 1958 ووصول عبد الكريم قاسم إلى السلطة، اتصل بي ضابط كبير وأخبرني أنّ الزعيم يطلب مني تصميم ثلاثة نصب. قلت متى يريدها، فقال غداً صباحاً. انتهى الاتصال وأنا أضحك، ورغم ذلك أنهيت الرسم الأوّلي لنصب الجندي المجهول خلال ربع ساعة، وبدأت التفكير في تصميم مناسب لنصب 14 تموز/ يوليو في ساحة التحرير». تقول له إنّه أُنجز على شكل لافتة ضخمة: «نعم. كانت بغداد مسرحاً لتظاهرات صاخبة ولافتات قبيحة مؤيدة للثورة، فقررت أن أنجز أضخم لافتة ممكنة ولكن جميلة، وليست مبتذلة كما كان يحدث في الشارع». هل ناقشه قاسم في تصميماته؟ «إحدى ميزات قاسم كانت إيمانه بأنّ منصبه كرئيس لا يجعله فاهماً لكل شيء، كما هو الأمر بالنسبة إلى الذين جاؤوا بعده». خرج الجادرجي من عند الزعيم إلى النحات جواد سليم الذي ملأ اللافتة بمنحوتاته التي لا تزال حتى اليوم تلفت أنظار المارة والسياح في ساحة التحرير.
أماّ نصب الجندي، فهُدم عام 1982 واستبدل بواحد أقيم في منطقة أخرى. بأي منطق يتخلّص بلدٌ ما من تاريخه ورموز وجوده، تسأله؟ يتنهَّد، ويقول: «لأنّ العقل العربي ليس لديه مفهوم للتاريخ والتراكم التاريخي، ولهذا لم نكتب تاريخنا بعد، ولا نملك وثائق عن وجودنا وحياتنا إلا في ما ندر». الجادرجي ـــ في تصرف تراجيكوميدي ـــ لم يكتفِ بحضور عملية الهدم، بل صوّرها كاملة، والتقط صوراً شخصية مع مسؤول ورشة الهدم. كيف احتمل ذلك؟ تسأله. «بالنسة إليّ، كان الأمر يتعلق بضرورة التوثيق. لديّ مكتبة هائلة تتضمّن 20 ألف صورة تؤرخ للحياة اليومية والعمارة في العراق. من جهة أخرى، أنا مدرك بأنّ المنجزات المعمارية ستُهدم كلها سواء بفعل الزمن أو بفعل فاعل. ولهذا، حين توافرت لي فرصة توثيق تصميم لي وهو يُهدم لم أتردَّد في تصويره». المفارقة أنّ الجادرجي مكلَّف اليوم من مجلس الوزراء العراقي بإعادة بناء النصب القديم. لماذا وافق رغم انتقاداته للمجتمع والواقع العراقي؟ «لا تهمني السلطة. يهمني أن يعود النصب كما كان، لأن له بالنسبة إليّ مكانة خاصة».
صاحب «الأخيضر والقصر البلوري» لم يحقق شهرته بمنأى عن الألم والإحباط إذاً. أما الحادث الأكثر إيلاماً، فهو اعتقاله عام 1978 عشرين شهراً في سجن أبو غريب، بسبب مصادفة غريبة أوقعته ضحية لكراهية سعدون شاكر، رئيس جهاز الاستخبارات آنذاك. سُجن الجادرجي وخرج بالمنطق نفسه. إذ قرر صدام حسين بناء منطقة في بغداد وتجميل صورة العاصمة العراقية عشية انعقاد مؤتمر دول عدم الانحياز فيها. سأل عن أفضل معماري. قيل له إنّه في السجن، فأخرجه.
في كتاب «جدار بين ظلمتين»، أرَّخ الجادرجي وزوجته لتجربة السجن الذي شكَّل منعطفاً حاداً في حياته، إذْ قرر التوقف عن العمل، والتفرغ للتأليف والبحث النظري. لماذا؟ «لا أعرف تماماً، لكنّي شعرت لحظة دخولي السجن أنّ دوري معماراً انتهى. تفرّغت للكتابة بهدف تشجيع الفكر العربي على استعمال لغة علمية في وصف وتحليل العمارة».
بعد انتهائه من تصاميم بغداد، غادر العراق فوراً. بين 1984 و1992، درّس العمارة وعلم الاجتماع وفلسفة الفن في جامعتي هارفارد ولندن، فضلاً عن جامعات عربية عدة. نال جائزة الـ«آغا خان» عام 1986، ثم أتبعها بجائزة الشيخ زايد هذا العام عن كتابه «في جدلية وسببية العمارة».
تسأله أخيراً عن المشكلة التي أثارها تصميمه للعلم العراقي الجديد، وهل توقَّّع أن يثير استعماله للون الأزرق الموجود في العلم الإسرائيلي كل تلك الضجة؟ «أغلب الانتقادات لم تكن موضوعية. بعضهم يظن بأنّ وجود الأزرق في علم إسرائيل يجعله ملكاً لها». قبل أن تودّعه، يجول بك في منزله الهادئ على الطريق البحرية في منطقة حالات: «صديقي المهندس المعماري عاصم سلام هو من اختار موقع المنزل». تخبره أنّ اسم صديقه مسجّل في قائمة مَن سننجز بورتريهات عنهم، ثم تغادر. لكنك تكره العودة إلى بيتك الضيِّق الذي لم تختره أو تصمّمه بنفسك، ولا تجد فيه ركناً للتأمل والاسترخاء.


5 تواريخ

1926
الولادة في بغداد
1951
تخرّج من «مدرسة هامرسميث للحرف والفنون» في بريطانيا، وأسس «شركة الاستشاري العراقي» حيث عمل 27 عاماً
1958
أنجز نصب الحرية، ونصب الجندي المجهول الذي هُدم عام 1982
1978
اعتُقل في سجن أبو غريب عشرين شهراً، وقرر التوقف عن العمل معماراً والتفرّغ للكتابة والتأليف
2008
فاز بجائزة الشيخ زايد عن كتابه «في جدلية وسببية العمارة» (مركز دراسات الوحدة العربية ـــ 2006) وكان قد حصل على جائزة الـ«آغا خان» قبلها بعشرين سنة