سهير أبو عقصة داود *مثيرٌ للاشمئزاز بعضُ الذين يمتهنون الصحافة والكتابة ويسترزقون من أسياد حُشوا بالنفط والطغيان. فقد طلع علينا بعضهم، كعادتهم، ليعلّموا العربَ الحضارةَ والثقافة، ولتصل صفاقةُ أحدهم إلى القول إنّ العرب لا ينفعهم سوى أشخاص كصدّام. هؤلاء الكتّاب رأيناهم، هم أنفسهم، أثناء حرب تموز، يلقون اللومَ على القتيل وعلى المقاوم. رأيناهم في كلّ مناسبة يتكلمون، من برجهم العاجي، وبوجوههم المشوّهة، على الرقيّ. وبعضهم ظهر أخيراً على شاشات الـ «سي أن أن» للتبرّؤ من حضارة العرب ومن «المجرم» صاحبِ الحذاء الذي وصلتْ حضارته إلى الحضيض حين تجرّأ على استعمال هذا السلاح الفتّاك. لقد قال فعلُ الزيدي ما لم تستطعْ جيوشٌ فعلَه. وفعلة الحذاء ليست في حدّ ذاتها هي المهمة. وعلى الحذاء، في الواقع، ألا يمجّد، بل فعلُ المقاومة بأيّة وسيلة هو العظيمُ مهما صغرتْ وسائله.
ولكنّ هذه المسألة يجب ألاّ تمرّ مرورَ الكرام من دون مناقشة جدّية وطرح أسئلة من قبيل: هل هلّل العربُ فعلاً للحذاء؟ لماذا لم تلقَ كلماتُ الزيدي صدًى لدى الشارع كما لقي الحذاءُ؟ هل كان الشارع سيقيم الدنيا ولا يقعدها لو ضَرب مواطنٌ عربي بحذائه أحدَ زعماء العرب الذين يستحقّون أكثرَ بكثير من ضرب الأحذية؟ هل سيهرع المحامون العرب للدفاع عنه؟
وهل على الصحافي أو الكاتب أن يجلس في برجه العاجي ليحسّ بوجع شعبه من بعيد، من دون أن يملك الحقّ في أن يقاوم بطرق أخرى؟ أليس هراءً أن يختزل الإنسان إنسانيته كلها في مهنةٍ مهما كانت سامية؟
الزيدي اتّخذ قراراً بسيطاً ولكنه عظيم في دلالاته: لقد قرّر أن يكون إنساناً وأن يدافع عن حقّ أساسي له كإنسان. قرّر أن يكون مقاوماً لأنه عزم على رفض الظلم وتحمّل تبعات مقاومته. قرّر أن يقول بحذائه ما أحسّ به ملايينُ المقموعين... لا في العالم العربي وحده بل في أميركا نفسها وفي العالم كلّه. لماذا لم يفكّر أو يقْدم أحد على ما قام به الزيدي؟ الفكرة قد تبدو مضحكة، ولكنْ عندما تصبح حدثاً فإنّ علينا ألا ننتشي بلا حساب.
البعض اقترح شراء الحذاء بآلاف الدولارات، وقد يصل سعره إلى ملايين الدولارات. أما أنا، فمع حفظ فردة من حذاء الزيدي في المتحف العراقي، وفردة أخرى في متحف السمثسونيان في العاصمة الأميركية، وذلك لتذكير الأجيال بأنّ الشعوب تقاوم ولو كان الحذاء إحدى وسائل المقاومة، ولتذكير الأميركيين بهمجية إدارتهم في احتلال العراق وتدميره، وبأن مصير أيّ مستبدّ هو مزبلة التاريخ. لكن علينا ألا نتذكّر الحذاء وننسى أنه، في هذه اللحظة، يعذَّب الزيدي والآلافُ من المقاومين الأبرياء. علينا أن نفعل لكي نكون على خطّ واحد معهم. والمطلوب ليس تخليد الحذاء، بل تخليد مبدأ المقاومة.
الزيدي شخص واحد أثبت أنّ المقاومة ممكنة، بل إنه شحن الملايينَ بضرورة التحدّي بفردتيْ حذاء. تخيّلوا فقط ماذا يمكن أن يحدث لو كان عندنا فقط زيدي واحد في كل دولة عربية؟ لما كان بوش سيتجرّأ في هذه الحال على حضور المؤتمر الصحافي ولا على الوقوف في صفّ واحد... مع حذاء.
* كاتبة فلسطينية