بيار أبي صعبمنذ عشرة أيّام تعيش تركيا هزّة حقيقيّة، صحوة ضمير طال انتظارها، بمبادرة من أربعة مثقفين في بلد أورهان بابوق. جملة واحدة كانت كفيلة بوضع النار في الهشيم: «لم يعد ضميري يحتمل مزيداً من اللامبالاة، ولم يعد من المقبول أن يتواصل إنكار «الكارثة الكبرى» التي عاشها الأرمن العثمانيون في عام 1915». إنّها مقدّمة العريضة التي أطلقها أحمد إنسل وباسكين أوران وجنكيز أكتر وعلي بيرم أوغلو منتصف هذا الشهر في اسطنبول، ووقّعها منذ ذلك الحين عشرات آلاف المواطنين الأتراك عبر الانترنت... مطالبين باعتراف دولتهم رسميّاً بمسؤوليّة تركيا عن المذبحة الكبرى التي تعرّض لها مليون أرمني، خلال ما يمكن اعتباره أولى الإبادات الجماعيّة التي شهدها القرن الماضي. قرن مسكون بالهمجيّة التي عرفت ذروتها مع المحرقة النازيّة، وما أسفر عنها من مآس في طليعتها نكبة فلسطين... وصولاً إلى سرطان «التطهير الاثني» الذي فتك بقلب أوروبا، على مرأى ومسمع من الديموقراطيّات الكبرى، في السنوات الأخيرة من القرن العشرين.
يلتمس الموقّعون الصفح والسماح من «الأخوات والإخوة الأرمن» عن الإبادة الجماعيّة التي تعرّضوا لها في تركيا عام 1915. المبادرة التي تتطلّب الكثير من النزاهة والشجاعة، فتحت شرخاً حقيقياً ومهمّاً في جدار الصمت الذي يحيط بتلك الجريمة منذ قرن ونصف القرن، وسط إصرار رسمي وشعبي على إنكار أي مسؤوليّة تركيّة عن المذبحة. هل جاء زمن الاعتذار ومراجعة التاريخ؟ هل بدأ العد العكسي للخروج من حالة النسيان الجماعي الذي يلفّ الجمهوريّة، منذ ولادتها مطلع العشرينيات؟ هل بدأ تفكيك نظام القيم الذي يكبّل الوعي الجماعي، ونقد عمليات غسل الأدمغة التي تمتد جذورها إلى المناهج التربويّة، وربما الأساطير المؤسسة للمشروع الأتاتوركي؟
ردود الفعل العنيفة التي تعرّض لها أصحاب المبادرة، في تركيا الواقفة على أبواب أوروبا، تبدو مقلقة بعض الشيء. وكذلك الحملات المنظّمة والتهديدات بالموت التي يتلقاها كل منهم، ناهيك بالشتائم على أنواعها والاتهامات بالخيانة... أربعة مثقفين أتراك يعطوننا درساً في الشجاعة، يعيدون الاعتبار إلى دور المثقف كضمير للجماعة. ما زالت الطريق شاقة وطويلة ربّما، لكن رحلة الألف الميل تبدأ (أحياناً) بخطوة واحدة...