أحمد الزعتري
تتوقّع أن يستقبلك رجلٌ وسيمٌ حاد الملامح يرتدي زيّاً عسكريّاً، تتدلّى من كتفه بندقيّة عثمانيّة... تلك الصورة لا تليق بأحد، كما بـ«شيخ المناضلين الفلسطينيين». لكن عندما يُفتح الباب، يقابلك عجوزٌ دمث يرتدي بدلة أنيقة، حليق الذقن، يسألك عن عائلتك ويروي لك تاريخها في المنطقة، يطلب القهوة في موعدها (الخامسة بعد الظهر)، وتُمهله وقتاً كي يضع السمّاعة في أذنه ليسمعك جيداً.
«التقى» بهجت أبو غربيّة أوّل قطعة سلاح عام 1934. يومذاك، ابتاع مسدّساً، يدفعه شعور التهديد الذي ولّده فيه اكتشافُ حمولة أسلحة وذخائر على متن باخرة بلجيكيّة في ميناء يافا. كانت الصورة التي هُرّبت بها الأسلحة كفيلةً بتغذية الشباب آنذاك بروح مقاومة ضدّ أشباح تتسلّل إلى قراهم ومدنهم: «خُبِّئت الأسلحة والذخائر داخل براميل كبيرة تحمل الإسمنت الذي جاء على اسم شركة الإنشاءات الضخمة «سوليل ها بونيه».
أدرك ابن الثمانية عشر ربيعاً أنّ المسألة لم تكن قضية احتلال فحسب، بل إنّها غزوٌ مسلّح يسعى إلى طرد الفلسطينيين وتشريدهم... فإذا به ينخرط مثل معظم أبناء جيله، في إحدى المجموعات النضاليّة في القدس. لكن سريّة تلك المجموعات لن تساعدها على التواصل. تعرّف أبو غربيّة إلى عز الدين القسّام في حيفا، إلا أنّه لم يعرف عن مجموعته النضالية إلّا لاحقاً. انكشاف أمر هذه المجموعات «قضى عليها في مهدها»، رغم أنّها «أدّت رسالتها الثوريّة في حمل السلاح».
لم يمرّ وقت طويل حتى اندلعت ثورة 1936 نتيجة عمليّات ثأرية قام بها اليهود، بعدما قتل المناضلون أحد اليهود على طريق طولكرم ـــ يافا. ثم أضرب أهلُ يافا رداً على اغتيال اليهود حارس بيّارة وعائلته وتبعتها جميع المدن، فجاء ردّ الأحزاب متأخراً، إذ قرّرت «استمرار الإضراب». وتسمية «اليهودي»، كانت تستعمل في فلسطين بطريقة عفوية، ولا تزال، للإشارة إلى العدوّ الغازي، الصهيوني أو الإسرائيلي، أي لا علاقة لها بأي اعتبار لاسامي كما قد يفهم اليوم، خارج هذا السياق، في الغرب. المهم أن أبو غربيّة انخرط في عمليات الاغتيالات التي نفّذتها المجموعات النضاليّة، فقام مع صديق عمره سامي الأنصاري باغتيال قائد شرطة القدس آلان سيغرست... وقد استُشهد الأنصاري في تلك العمليّة. وفي أربعينيّته، سيثأر له أبو غربية ويقوم وحده بقتل ضابطي طيران بريطانيّين.
استمرّت أعمال المقاومة حتى الأربعينيّات، حين توقّفت جرّاء القمع الذي مارسه البريطانيون، إذ اعتقل إداريّاً أكثر من 50 ألف شخص في بلد لم يكن يبلغ عدد سكّانه 700 ألف. ظلت الحال كذلك حتى صدور قرار التقسيم 1947 حين بدأت العصابات اليهوديّة بالتحرّك. آنذاك، التقى أبو غربيّة عبد القادر الحسيني، وقاتل إلى جانبه في «جيش الجهاد المقدّس». وقد أوكلت لأبي غربيّة مهمة الدفاع عن القدس الشرقيّة، والمحافظة على أحياء باب الساهرة والمصرارة وسعد وسعيد والشيخ جرّاح ووادي الجوز الشماليّة، هذه الأحياء التي بقيت حتى الآن عربيةً نسبياً. رفض بهجت أبو غربيّة أمر الانسحاب الذي وجّهه إليه قائد كتيبة الإنقاذ العربية فاضل رشيد بموافقة من مرشد الإخوان المسلمين في سوريا، ونائب القائد جمال الصوفي، بسبب «خطورة الوضع». يومها، قال لرشيد: «أستطيع الصمود ثلاثة أيام أخرى، ولن أسلّم القدس الشرقية ببلاش». وهذا ما حصل، فقد قاوم حتى إصابته بأربع رصاصات نُقلَ على أثرها إلى المستشفى الوطني في نابلس.
لم تملك المجموعات النضالية أسلحةً متطورةً. كانت قد حصلت على عتادها من مخلّفات الحرب العالمية الثانية: أسلحة إيطالية وألمانية وبريطانية... أما السلاح الأكثر فعالية TNT، فقد تُرك مكدّساً في الصحراء من دون أن يعي البدو أهميته كي يستغله المناضلون في عملياتهم. وقبل معركة «القسطل»، يقول بهجت أبو غربية إنّ النقمة كانت بادية على المناضل عبد القادر الحسيني بعد عودته من اجتماع لجنة جامعة الدول العربية العسكرية في سوريا. إذ روى له كيف «طقطق» طه باشا الهاشمي بأصابعه قائلاً «تريدُ رشّاشاً؟ هذا رشّاش... هذا مدفع».
لم يحاول أبو غربيّة رؤية جثة الحسيني لدى استشهاده «معنوياتي انضربت... كان تنظيمنا أقرب إلى الميليشيات، فلم يكن هناك مَن يخلف القائد الذي كانت تجمعني به صلةٌ معنوية كبيرة». بعدها بيومين، اجتاح اليهود المنطقة، وتوقّف أبو غربيّة عن عدّ سياراتهم العسكرية عند الرقم 135 «جرّبنا إيقافهم ما أمكن، واكتشفنا أنّنا سنذهب ضحايا بالمجان».
بعد ذلك، انتسب أبو غربيّة إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، وانتُخَبْ عضواً في القيادة القطرية للحزب في الأردن، بعدما التقى قادته من أمثال ميشيل عفلق عند قدومهم إلى فلسطين (1948). بدءاً من ذلك الوقت سيعمل متخفيّاً في البلاد. الحزب سيؤسّس لـ«الحركة الوطنية الأردنية» و«الضباط الأحرار»، ويطالب بحكومة وطنية وبطرد قائد الجيش العربي الأردني كلوب باشا. وبالفعل، سيُطرد قائد الجيش، وستقام حكومة سليمان النابلسي الوطنية، لكنّ ذلك لن يدوم طويلاً، إذ أعلنت الدولة الأحكام العرفية، وأقيلت الحكومة، واعتقل الضباط الأحرار بتهمة الانقلاب على النظام، ومن بينهم... بهجت أبو غربيّة (1960). «كانت تلك أسوأ أيام حياتي، فقد عذّبتُ لـ 72 يوماً متتالية».
لكن ألا يحبّ المناضلون ويتزوجون؟ نسأله وعيننا على أم سامي التي تصغره بوضوح: «تزوجتُ متأخراً جداً، بعد خروجي من السجن (1962). كنت كبيراً لكنّ والدها كان رفيقي في النضال فلم يتردد في تزويجي ابنته». ويبدو أنّ هذا الزواج أمّن له استقراراً نسبياً، فكيف استمر المقاتل الميداني في النضال؟ انتخب أبو غربية عضواً في اللجنة التنفيذيّة الأولى لمنظمة التحرير الفلسطينية، ثم المجلس الوطني الفلسطيني، والمجلس المركزي للمنظّمة حتى استقالته (1991) احتجاجاً على موافقة المجلس على القرار 242 القاضي بالاعتراف بدولة «العدو الصهيوني» والدخول في مفاوضات معها.
قبل ذلك، كان أبو غربيّة ضمن «الوفد الوطني الأردني» الذي قابل الرئيس العراقي السابق صدام حسين بعد اجتياحه الكويت، ونصحه: «عليك أن تعلم سيدي الرئيس بأنّ هزيمة العراق ستترتّب عليها نتائج مرعبة ومخيفة. وستستطيع الولايات المتحدة أن تأمر كل رئيس أو ملك أو أمير أو شيخ. وحتى إن كان طلبها اعتقال فلان، فسوف يكون لها ذلك».
أصدر أبو غربيّة الجزء الأول من مذكّراته (1993) «في خضم النضال العربي الفلسطيني» (مؤسسة الدراسات الفلسطينية)، والثاني «من النكبة إلى الانتفاضة» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر ــــ 2004) الذي منعته الرقابة الأردنية لأنّه يمسّ الجيش الأردني وأحداث أيلول الأسود ومعركة الكرامة.
اليوم، «أبو سامي» في الثالثة والتسعين، يعيش في منزله في عمّان مع ابنيه وابنته المتزوجين. تردّي بصره يمنعه من القراءة والكتابة. يتعكّز على «أم سامي» التي صارت «بصره وسمعه». تسليته الوحيدة هي ذهابه إلى «شركة التوفيق للطباعة» التي يسهم فيها. هناك يلتقي الأصدقاء والصحافيين. يعرّف نفسه بأنّه قسّامي ـــ ناصري، ويحيّي حسن نصر الله، ويشيد بمنتظر الزيدي الذي «أنعش الروح الشعبية المقاوِمة». ينسى الحديث عن نفسه ليروي حكاية فلسطين ما قبل النكبة، «كي تتذكّرها الأجيال». وعندما تذكّره أم سامي بالرصاصة التي اخترقت بطنه وقتلت جريحاً كان يحمله، يشير بيده ويقول: «مش مهم».


5 تواريخ

1916
الولادة في خان يونس (قطاع غزّة، فلسطين)

1936
اغتيال قائد شرطة القدس واستشهاد رفيق عمره سامي الأنصاري

1948
رفضَ الانسحاب من القدس الشرقية، وهذا القرار سيحافظ على هوية القدس العربية حتى الآن ويمنع احتلالها بالكامل

1991
الاستقالة من منظمة التحرير الفلسطينيّة بعد قبولها بالقرار 242 القاضي بالاعتراف بإسرائيل

2008
وقّع بياناً يدعو إلى «تحرّك جماهيري» للمطالبة برفع الحصار عن غزّة، فاستدعته الاستخبارات الأردنية ودعته إلى الامتناع عن ذلك، لكنّه رفض وأصرّ على التزامه بهذا الموقف