ريمون هنودمن المؤكد أنني لست من مشجعي الهجرة الدائمة أو المؤقتة، لكنني أتمنى على كل شاب لبناني عمره ما بين الثامنة عشرة والثلاثين القيام برحلة سياحية لمرة واحدة في حياته على الأقل إلى القارة الأوروبية بالذات. ليس ذلك إعجاباً مني باشتراكية ثاباتيرو وبرلسكوني الماكرتين، أو بدونجوانيّة ساركوزي أو بالحركات التهريجية لبرنار كوشنير، بل بهدف نقل الصورة الأوروبية الحضارية العفوية إلى لبنان، البعيدة كل البعد عن أبسط الأشياء وأتفهها المسببة لأخطر المشاكل في وطن الأرز العربي.
على سبيل المثال، الاختلاف على أفضلية المرور أو الاقتتال على أثر مباريات كرة القدم وكرة السلة. السياحة مطلوبة للشاب ولو لمرة واحدة، لأنه من المؤكد فور عودته سيسأل نفسه: لماذا لا أهوى ركوب الدراجة الهوائية وركوب الخيل وممارسة رياضة الجري والسباحة وصيد الأسماك وقطف التفاح والعنب والتين والاعتناء بالحديقة وقراءة الشعر والأدب؟
وإذا كان الشاب مصرّاً على الاهتمام بالعمل السياسي، فليسأل نفسه: لماذا لا أناضل لأجل قيام أحزاب وجمعيات تقدمية اجتماعية ثقافية، عوضاً عن إرهاق أعصابي من أجل نصرة أحزاب الطائفة والمذهب؟ ليسأل نفسه: لماذا أعشق الطائفة ومصالحها السياسية على قاعدة «بتحبّني وشهقت بالبكي» أكثر من عشقي لخطيبتي أو زوجتي؟ والشاب الأعزب المتيّم هستيريّاً بحبّ نصرة حقوق المذهب، ليسأل نفسه: الغزل العذري بفتاة جميلة رقيقة أليس أفضل من التغزّل بأمير طائفة أو بأمير زاروب انتفخ بطنه جراء استغلاله خيرات عرق الجبين ومن ثم فدائه من جانب «عبده» بالروح وبالدم نطقاً وفعلاً؟
إلى متى سيستمر الشاب في العمل بمهنة تمسيح الجوخ عند مَن غرقوا في بحور الوصولية، و«الكشتبنجيّة» غزت عقولهم؟ إلى متى السماح باستمرار سياسة قضم النفوس وضمها وفرزها تمهيداً لبيعها في المزادات العلنية فيالق وسرايا وطوابير وكتائب وألوية وفرقاً في أسواق العهر القبائلي والعشائري والمذهبي والطائفي؟
إلى متى سنبقى أسرى تحكّم الاستبداد بنا وغيرنا من الأحياء سبقنا إلى ضربه بالأحذية؟ ألا يجدر بالشباب أن يقدموا على التظاهر مليونياً في سبيل المطالبة بتشييد المدارس الوطنية المجانية عوضاً عن إنفاق أهاليهم الملايين في المدارس الحائزة «البركات الإلهية» والسالخة جلد الكادحين بلا رحمة ولا هوادة، أو كما يقال بالعامية: «ما بقَّت على خميرتهن طحين»؟
إلى متى ستبقى المواضيع السياسية الفئوية الطائفية وأريج النجاسة الفائح منها طاغياً مستبداً بمفرده على أذهانكم، متصدّراً طليعة اهتماماتكم على ما عداها من أمور أخرى مفيدة؟ ألا تفكرون بإطلاق سراح لقمة العيش من سجانيها ومغتصبيها؟
المواطن يفضّل إنفاق خيراته على شراء معدات القتل في سبيل المحافظة على عروش جلاديه وبائعيه، عوضاً عن أن تنفق تلك الخيرات على شراء الطحين في سبيل ولادة الرغيف لإطعام جياعه. يا لسخرية القدر: مازوشية مواطن في خدمة سادية إله سياسي للطائفة. إنه لعارٌ ونحن في مطلع الألفية الثالثة مصرّون على الاستمرار في إحياء «فيروس» أسياد وعبيد، أقزام وجبابرة، عوضاً عن زرع مبادئ العدالة الاجتماعية وقيمها في نفوس نشئنا الجديد.
ويستمر اللبناني في النق والتأفّف والترنّح متسائلاً: ما الذي أصابني؟ مسكين لا يدري ولا يشعر بأنه يُحقَن بالمورفين المسكّن القاذف به في نفق الطاعة الذي يؤهله للاستزلام والخنوع وبالتالي السجود. مسكين مَن يُبْصَق في وجهه ويقول إن الدنيا تمطر. مسكين مَن يعتريه الضياع والحيرة والاضطراب والهلوسة والهذيان، فيتساءل ما الذي أصابني؟ لماذا أشعر بالقلق والهمّ والغمّ والتشاؤم والوجوم؟ فيظن أن أشياء نَكِدة حلّت فيه، فيستعين بالمشعوذين لعلّهم يفلحون بفك المسحور والمربوط والملبوس، والمحصّلة النهائية غريقٌ في دوّامة الحلقة المفرغة ويتخبّط تخبّطاً عنيفاً في حلزونة الرمال المتحركة محاولاً المقاومة مخافة الغرق، إنما لا حول ولا قوّة.