منى عباس فضل *الخلاف ليس طارئاً ولا وليد اللحظة، لكونه أحد إفرازات التجربة السياسية الكويتية بما مرت به من مخاضات عسيرة منذ نشأتها حتى هذا الوقت، وبكل ما اتسمت به من تجاذبات بين الأطراف السياسية والاجتماعية والدينية مع دائرة الحكم، وما ساد بين أقطابها داخل الأسرة الحاكمة من تباينات بشأن حجم النفوذ والمصالح التي عبرت عن نفسها باختلافات الرؤى على طبيعة نظام الحكم.
عندما تشتدّ الصراعات في مجلس الأمة، غالباً ما تتردّد الأحاديث بقوة عن محاولات مراكز القوى المتنفذة، الانقضاض المتكرّر على الدستور وتعليقه، والانفراد بالقرار السياسي، فضلاً عن تقليص صلاحيات المجلس، وذلك بالحدّ من استخدام آلية الاستجواب كأداة رقابة تشريعية، أو حله حلاً غير دستوري، يضاف إليها الخلاف المستتر على صلاحيات رأس الدولة ومؤسساتها. وثمة ما يتّفق عليه المحلّلون بأن نظام الحكم وراثي دستوري يتكون من حكومة (مجلس الوزراء) ومجلس الأمة (البرلمان)، الذي يجرى انتخاب أعضائه كل أربع سنوات، وهو هيئة تشريعية تتمتع بسلطة إبطال القرارات التي يتخذها الأمير كرئيس للدولة. فالمادة السادسة من الدستور تنص على أن: «نظام الحكم في الكويت ديموقراطي، السيادة فيه للأمة مصدر السلطات جميعاً».
حدّد الدستور أعضاء المجلس بخمسين نائباً وبتعيين الوزراء غير المنتخبين أعضاء في المجلس بحكم وظائفهم حسب المادة ثمانين، فيما المجلس يتمتع بصلاحيات تشريعية ورقابية واسعة تمكنه من استجواب الوزراء. إلّا أنّه غير قادر على إسقاط الحكومة، هذا في الوقت الذي لا تزال فيه الأحزاب السياسية محظورة، بالرغم مما تلعبه الجماعات السياسية والدينية والقبلية من دور حزبي فاعل على أرض الواقع.
ومن جهة التاريخ، يفيد المؤرّخون بأن تجربة الكويت الديموقراطية بعد الاستقلال في 1962 قد حدثت على مرحلتين: الأولى من 1921 إلى 1938، حينما تألّف أول مجلس للشورى ضمّ اثني عشر عضواً من التجار وأصحاب الرأي ممن اختيروا بالتعيين، ومع تطور الإدارة العامة، بحسب خلدون النقيب، انتخب أعضاء المجلس البلدي في 1934 ومجلس المعارف في 1936 اللذين حُلّا في 1937. واستناداً إلى مذكرات الدكتور أحمد الخطيب، فإن النظام اعتمد في بداية تكوّنه على التجار في تمويل الدولة، بينما أصبحوا في ما بعد تحت رحمة أموال النفط المحتكرة من الدولة التي جعلت أغلب مرافقها تحت سيطرة أفراد العائلة الحاكمة، مضيفاً «حتى بعض المجالس المنتخبة كان يترأسها أيضاً أفراد من عائلة الصباح»!
وفي المرحلة الثانية، تألّف مجلس للشورى من أربعة عشر عضواً، ثم أنشئ أول مجلس تشريعي منتخب في 1938 ووضع قانوناً تأسيسياً صادق عليه الأمير واستمر لمدة عام ونصف ثم حلّ، لتبدأ كما يشير الخطيب، مرحلة سياسية مضطربة انتهت بصدام مسلح بين الحاكم وأعضاء الحركة الإصلاحية آنذاك.
بيد أن التجربة الديموقراطية الحقيقية من وجهة نظره، قد بدأت في 26 آب / أغسطس 1961، أي مباشرة بعد شهرين من الاستقلال، حيث حصل ذلك بإصدار مرسوم تأليف هيئة تنظيم مشروع انتخاب أعضاء المجلس التأسيسي الذي تولى إعداد أول دستور للكويت وجرت على إثره الانتخابات العامة في 3/12/1961.
في هذا الصدد، يعتقد الخطيب أن الاستقلال والدستور قد جاءا بسبب الوضع الشعبي المطالب بالاستقلال والمشاركة في الحكم، وإن دور الأمير الشيخ عبد الله السالم الملقب بـ«أبي الدستور»، كان بارزاً في إقناع العائلة بذلك. إلا أن هناك أطرافاً أخرى في الحكم كانت رافضة للمشاركة الشعبية في الحياة السياسية، وقد أعاب عليه بعض شيوخ العائلة تنازله عن صلاحياته، وتهميش صلاحيات العائلة الحاكمة وإلغائها.
وعند إشارته إلى المرحلة تأسيس التجربة الديموقراطية، وجد أن النقاشات في لجنة الدستور كانت تصل منذ البداية إلى حدّ التأزم بشأن وضع أفراد الأسرة الحاكمة ومشاركتهم في الحكم، وما هي مسؤولية رئيس الوزراء، وما يمنح له من حصانة، فضلاً عن السماح بنشاط الأحزاب السياسية، إضافة إلى الاستجواب كأداة رقابة تشريعية، ومخصصات الوزراء وتوزيع الثروة... وغيرها من القضايا التي يمثل التوافق والتعاقد عليها شروطاً موضوعية لنجاح أي تجربة سياسية.
انتُخِب أوّل برلمان في 1963. بعدها توالت الانتخابات في 1967 حيث تردّدت أحاديث عن عملية تزويرها. ثم في 1970 و1975 إلى أن حل المجلس وعلق الدستور في 29/8/1976 كذلك في عام 1986، لينشأ بعدها مجلس وطني في 1990، نصف أعضائه منتخب ونصفه الآخر معين، من أولى مهماته وضع دستور جديد على أن يكون المجلس مجرد مجلس استشاري، وجدته أطراف المعارضة تمهيداً ومقدمة لإلغاء الدولة برمتها في 2/8/1990، وبالطبع قاطعت انتخاباته.
إلى ذلك، وفي سياق المتغيرات الظرفية السياسية المتشابكة والمعقدة محلياً وإقليمياً بعد فترة احتلال الكويت، اشتدت الصراعات السياسية، وخصوصاً في انتخابات 2006 بشأن الدستور والنظام الانتخابي والمطالبة بتقليص الدوائر الانتخابية من 25 إلى 5، ومشاركة المرأة السياسية، وآلية الاستجواب، أعقبها انتخابات 2008 بعد حل المجلس قبلها بأشهر إثر خلافات أدت إلى طريق مسدود، أعقبها تقديم استقالة جماعية للوزراء...
إذاً خلاصة هذا كلّه، أنّ للأزمة الحاليّة جذوراً تاريخيّة ومسبّبات جوهريّة تتعلق بتبادل السلطة وصلاحيات المجلس وآليات الرقابة الشعبية، على الرغم ممّا تميزت به تجربة الكويت الديموقراطية من دينامية في إطار حكم وراثي اعتمد إلى حد ما التعاضديات والتفاهم والتشاور الذي وسع من مساحة ممارسة الحريات. كل ذلك، في ظل بروز قوى سياسية عبّرت تاريخياً عن التوازنات السياسية التي تأثرت بما ساد المنطقة من انعكاسات لحركة التحرّر العربية والمدّ القومي وبعدها الديني، وبتأثير من القوى المذهبية والقبلية.
بيد أنّ ما شهدته هذه القوى من منافسة ومواجهات قوية وحادّة في بعض الأحيان، لا سيما بين التكتلات الانتخابية من الإسلاميين السياسيين وتحالفات القبائل، والنزاعات الطائفية، قد أضعف بحسب المحلّلين من وضع الدولة التي تعاني صراعات بارزة ومستترة بين أقطاب مراكز القوى في أوساطها. ولعل في ما كتبه الخطيب دلالة على ذلك: «بعد احتلال الكويت وهاجس الخوف الذي ظل ساكناً من ضياع الحكم وفقدان ناصية القرار السياسي لمصلحة القوى والجماعات الدينية أو القبلية، وفي ظلّ محاصصة سادت بين الأقطاب السياسية المؤثرة، كل ذلك انعكس على ضعف أداء الدولة وغياب سلطة القانون وسيطرة المال السياسي الذي أوصل العامة إلى حالة من الامتعاض والنفور من المشاركة في الحياة السياسية وفي الانتخابات»!
* كاتبة كويتية