العنف الذي تتعرض له النساء، كيف نواجهه؟ هل تكفي مبادرات جمعيات أهلية لحماية المعنّفات؟ وكيف يمكن سن قوانين تحارب العنف الأسري وتطبيقها، فيما المجتمعات العربية لا تزال تتغاضى عن هذا العنف، وتشجعه أحياناً؟ أخيراً، تساهم التنشئة بدفع النساء للاستسلام لقدرهن، بما تقوم عليه من قيم، بدءاً بطاعة الأب، وهي صيغة من صيغ حماية السلطة

نوال العلي
كان عالم الأنثربولوجيا مالينوفسكي يسعى إلى تحسين شروط حياة الهنديات في منطقة نائية من المستعمرة الإنكليزية. أوصى بمدّ صنبور للمياه، معتقداً بذلك أنه يريح النساء من مشقة الذهاب إلى النهر البعيد لجلب الماء في جرار. وبعد شهور من «الراحة»، أجريت دراسة على «المستفيدات من المبادرة» فتبيّن أنهن أصبحن أكثر كآبة وفقدن حيويتهن، ليجد مالينوفسكي أن مشوارهن اليومي إلى النهر كان يجلب لهن السعادة. بل إنه كل ما يملكن من حرية. انتهت أخيراً «حملة الـ16 يوماً لتشريع حماية النساء من العنف الأسري» التي أطلقتها منظمة «كفى» وجمعيات أخرى من «التحالف الوطني لتشريع حماية النساء من العنف الأسري» بتمويل من الاتحاد الأوروبي، ومن أولويات «أجندة» الحملة مشروع قانون لحماية النساء من العنف الأسري، وهو مشروع تسعى دول المنطقة إلى إقراره، كل واحدة بحسب خصوصيتها، بناءً على توصيات اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة «سيداو» التي صادق عليها لبنان والأردن وسوريا ومصر.
حال مشروع القانون والأسرة والقائمون عليه كحال مالينوفسكي والهنديات، تجربة لن تظهر جدواها إلا بعد الخوض فيها. ليس المقصود، بالطبع، أن النساء يجدن سعادتهن في ما يتعرضن له من عنف، وإن كانت هناك حالات من الشذوذ النفسي تقر بذلك، نورد مثالاً بيانات الدراسة التي أجريت في الأردن وتشير إلى أن 41.7% من النساء المعنفات يوافقن على حق الزوج في معاقبة الزوجة إذا أذنبت. كيان الأسرة العربية لا ينطبق على الأسر في المجتمعات الأخرى، وخصوصاً أنه يحمل بنية تاريخية تحكم قبضتها ولو بالعنف على كل فرد في تلك العائلة، وبهذا المعنى قد يصح القول إن العائلات أماكن مرعبة. وبهذا المعنى أيضاً يتساءل عالم الاجتماع الطاهر لبيب «ما قيمة قانون متقدم في مجتمع متخلف»، لا سيما أن لجوء المرأة إلى جهة قانونية يعرّضها إلى التشكيك في نزاهتها الأسرية وموقفها من منظومة العائلة، ما يضعها في مواجهة عقاب اجتماعي حتى من الأقربين لتخليها عن دورها التاريخي في التضحية.
التنشئة الأسرية وما تقوم عليه من قيم، بدءاً بطاعة الأب، هي صيغة من صيغ حماية السلطة، لذلك تكفل القوانين حقوقاً في حدود إعادة إنتاج السلطة بشكل ما، فهي منظومة كبيرة من البطريركية المتكاملة.
تصادف أمثلة ساطعة على كل ذلك في «كفى»، العنف الذي يمارسه الرجل في المنزل يمارسه في قاعة المحكمة وفي مركز الشرطة أيضاً، فالصورة البطريريكية المصغرة في بيت العائلة لها رديفها «طبق الأصل» في مكان آخر تلجأ المرأة إليه؛ قد يرفض قاض التطليق، أو يقلص النفقة، وهناك ضابط يواجه الزوجة لائماً على اللجوء للشكوى. لذلك تجد القائمات في «كفى» أنهن أمام مهمة توعية المرأة ودفعها إلى ممارسة حقوقها القانونية من دون تهيب. متنبهة إلى أن الجهة التي يفترض أن تحميها قد تعنّفها بطريقة أخرى.
في «كفى» هناك حالات «ملاك» و«ريتا» و«زهية» وأخريات يتجنبن ذكر الأسماء، فقدت ريتا سمعها جزئياً بعد سنوات من الضرب المستمر على رأسها. ها هي الآن تغادر المنزل كل جمعة، فهو اليوم الذي يصطحب فيه زوجها العاهرات إلى البيت، يأمرها بالمغادرة، في ذلك النهار تقصد ريتا بناية في حيّ «بدارو» وتطرق باب «كفى». هناك، متطوعات محاميات ناشطات يحرصن على تهدئة ريتا وشبيهاتها، وعلى دعمها وتشجيعها على اللجوء إلى القانون.
أما زاهية الشابة، فلها قصة أخرى، يجبرها زوجها المسن وقد ضعفت قدراته الجنسية على تناول الكورتيزون ليزيد وزنها، وإن رفضت يحرم الأطفال من الطعام. هكذا زاد وزنها 30 كلغ.
المحامية دانييل حويك، الناشطة في «كفى»، ترى أن خصوصية العائلة توجب إيجاد قانون خاص بها، يحمي الأسرة من العنف ويراعي تكوينها وسريتها وحرمتها بدلاً من اللجوء إلى قانون العقوبات العادي. وخصوصاً مع وجود أشكال مختلفة من العنف، الاقتصادي والجنسي والجسدي والنفسي.
يشير الطاهر لبيب إلى أن القانون لا يصبح فاعلاً من وجهة اجتماعية إلا إذا كانت الشرائح الواسعة فيه مهيأة لاستيعابه وتطبيقه، ويلفت إلى غياب القوى والحركات الاجتماعية العربية التي تملك القدرة والاستعداد على حمل هذه القوانين وضمان تراكمها والدفاع عنها من أجل تطبيقها. ويتحدث عن الأسرة الغربية مثالاً صارخاً على التفكك، وإلى العودة الحالية في الغرب إلى البحث عن الأسرة المتماسكة مهما كانت درجة العنف فيها، على أن مفهوم التماسك في المجتمعات العربية مختلف من حيث ارتباطه بالقيم الجمعية لا بالفرد، إذاً نحن أمام مقولة مستحيلة الحل، تزعم أن «التماسك بلا حقوق، أفضل من الحقوق بلا تماسك».


قانون وقائي

جاء في تعليقات لجنة القضاء العالمية على جميع أشكال التمييز ضد المرأة «أن عدم وجود تشريع محدد لمكافحة العنف العائلي يمثّل انتهاكاً لحقوق الإنسان»، من هنا وضع عدد من القانونيين مشروع قانون لحماية النساء من العنف الأسري، يتّسم بالصفة الوقائية ويعطي المرأة حق الدفاع عن نفسها عن طريق الحصول على قرارات الحماية، وتكون فيه مراكز التأهيل من العنف بديلة من السجن. ويسعى القائمون على هذا المشروع إلى تجريم العنف الأسري، وتعيين مدع عام استئنافي أسري في كل محافظة، وإنشاء محكمة خاصة بالأسرة. ويطمح القانون إلى استحداث صندوق مالي حكومي أو مشترك لمساعدة ضحايا العنف الأسري. ويلتفت إلى ما لم يلتفت إليه قانون العقوبات، وهو اغتصاب الزوجات، بمعنى ممارسة الجنس قسرياً مع زوجة مريضة أو إكراهها على ذلك.