هشام البستاني*هكذا أصبح باراك حسين أوباما رئيساً للولايات المتحدة الأميركية. رجل أسود في الموقع الأول في أشرس إمبريالية عرفها التاريخ، وللسنوات الثماني الأخيرة، المعقل الأهم لطغمة المحافظين الجدد النيوليبراليين الذين لم يتورّعوا عن استخدام كامل نفوذهم السياسي وعتادهم العسكري وطرقهم اللاأخلاقية للهيمنة على العالم. وفوق كل هذا وذاك، تُعدّ الولايات المتحدة البلد الحاضن للعنصرية البيضاء، والأصولية الدينية المسيحية، واللوبيات الأكبر تأثيراً لمصنّعي الأسلحة، والصناعات الدوائية والبتروكيماوية، وصناعات البذور المعدّلة جينياً، واللوبي الصهيوني، وغيرها. فهل يجب أن يمثّل فوز أوباما سبباً لفرح الملايين من مضطهدي العالم وفقرائه؟
أعتقد أنّ الهوس الذي أصاب العالم، هذا الـ«باراك مانيا»، لا مبرّر له على الإطلاق، بل إنّ التحليل الذي سأورده أدناه سيجعلنا نستفيق قليلاً من «الحلم الأميركي» الجميل. لا شك في أن فوز رجل أسود في الولايات المتحدة هو انقلاب تاريخي بكل المقاييس، كما أن الانتصار الساحق الذي أحرزه هو إشارة إلى تغيير كبير في عقلية الناخب الأميركي، ودليل نفاد صبر هائل في ما يتعلق ببرنامج المحافظين الجدد، ولكن الأسئلة الهامة هنا هي: لمصلحة من هذا «الانقلاب»؟ وهل يمثّل فوز أوباما تراجعاً عن برنامج الهيمنة الأميركية وانكساراً لها؟
الرأسمالية قامت (ولا تزال) على هيمنة المراكز على ثروات الأطراف وأسواقها. لكن هذا لا يعني أن مواطني «الأطراف» المنخرطين في المؤسسة الرأسمالية يحتفظون بولاءات ما فوق طبقية لمصلحة تاريخهم السابق أو كياناتهم المستعمَرة والمضطهَدة.
لقد أثبتت الرأسمالية مرة بعد مرة، مرونتها العالية جداً وقدرتها على الاستمرار. المفصل الأوّل هنا، هو القدرة الكبيرة للرأسمالية على الاستفادة من أزماتها وتحويل هذه الأزمات إلى مصادر جديدة للأرباح والاستغلال. فأزمة تلوث المياه فتحت أسواق المياه المعلّبة الهائلة الأرباح، وأزمات الجوع فتحت الباب أمام شركات البذور المعدّلة جينياً، وأزمة تصريف التنوع السلعي الهائل جعلت الرأسمالية تبتدع آليات خلق الطلب بواسطة الإعلانات والمجلات وتسويق «طرق حياة» جديدة.
المفصل الثاني هو «استيعابيتها» اللامحدودة لمن يريد الانخراط في أتونها وخدمة مؤسساتها. الرأسمالية مؤسسة متمدنة حقاً. وبينما تروّج خارجها إلى كل الانقسامات القائمة على الدين والمذهب والقومية والإثنية والعشيرة والعائلة والمنطقة... نراها تتبنى عكس هذه الأطروحات في آلياتها الداخلية. فحكومة بوش (مثالاً على أشدّ الحكومات الأميركية تطرفاً) ضمّت سوداً وملوّنين ونساءً، وأشخاصاً من أصول هسبانية وآسيوية وعربية.
الآن، نتبين حقيقة هذه المرونة والتجدد والاستفادة من الأزمات بدرس جديد: صعود أسود إلى رئاسة الولايات المتحدة الأميركية.
تلك أخبار سيئة لأعداء الرأسمالية مثلي، لأن نظاماً همجياً على هذه الدرجة من المرونة، وعلى هذه الدرجة من الخداع (خداع الآخرين بأنه يتبنى منظومات بدائية دينية أو عنصرية والحقيقة غير ذلك تماماً)، وعلى هذه الدرجة من القدرة على الاستفادة من أزماته البنيوية، هو نظام قادر على البقاء وعلى تجديد نفسه لأجل طويل.
والمتابع للدورات السياسية للكيانات العدوانية (وسنأخذ هنا أمثلة الولايات المتحدة و«إسرائيل»)، سيلاحظ بشكل واحد تعاقب حقب سياسية يختلف فيها اللاعبون السياسيون، لكن الحركة باتجاه الهدف الأساسي (الهيمنة) تظل قائمة وبالوتيرة ذاتها.
تأتي حكومة متشدّدة (محافظة في الولايات المتحدة وليكودية في إسرائيل) لتغزو وتسحق وتدمّر وتقلب أنظمة، فتستنزف نفسها وتفقد شعبيتها داخلياً وخارجياً وتتضرّر صورتها كاملاً، فهي في النهاية حكومة حرب. بعد أن تكمل مهمتها في اللحظة التاريخية المعينة، يصبح لزاماً على حكومة من نمط آخر، لطيفة الشكل ومبتسمة الثغر (ديموقراطية في الولايات المتحدة وعمالية في إسرائيل)، أن تحقّق المكتسبات الدبلوماسية والاقتصادية والجيواستراتيجية التي مهدت لها سابقتها الهمجية، وتعيد ترميم «إصابات الحرب» وشفاءها، لتتمكن الحكومة الهمجية التالية (محافظة في الولايات المتحدة وليكودية في إسرائيل) من استكمال المسيرة بجسد قوي شفي من جراحه، واستعاد سمعته الجيدة ومصداقيته المفقودة، وهكذا.
المحافظون والليكوديون هم القوة الضاربة، والديموقراطيون والعمّاليون هم فترات الاستثمار السياسي وإعادة البناء الداخلي: واحد يمهّد الأرض، والآخر يثبّت الأركان، وهكذا، ومسيرة الهيمنة لا تتوقف عن التقدم والتطور. لنتذكر أن كلينتون «الديموقراطي» قصف العراق بالصواريخ والطائرات، واستمر في حصاره القاتل للبلد نفسه، وغزا يوغوسلافيا السابقة مفتتاً إياها إلى الكانتونات التي هي الآن. نسينا ذلك في خضم انشغالنا بوسامته وأناقته وحديثه الجذاب وابتسامته اللطيفة ومغامراته الجنسية. وبعد فجائع أميركية كبرى مثل الغزو الهمجي للعراق، ومعتقل غوانتانامو، والسجون والرحلات السرية للاستخبارات الأميركية، ونتائج إعصار كاترينا، وانهيار الأسواق المالية، وأزمة السكن... ما الأفضل من انتخاب رئيس أسود يحمل اسم «حسين» لنسيان كل ذلك، والبدء من جـــديد؟
الديموقراطيون والجمهوريون هم أركان مؤسسة واحدة يلعبون أدواراً تتناسب واللحظة التاريخية المعنية بتبادلية «ديموقراطية» وأحياناً غير ديموقراطية، يتبادلون المؤسسة، لكن المؤسسة باقية. (راجع كيف فاز جورج بوش الابن في دورتيه من خلال تزوير الانتخابات في الكتابين التاليين: Michael Moore, Stupid White Men و Greg Palast, The Best Democracy Money Can Buy).
ومن يظنّ أن إمبريالية بحجم الولايات المتحدة يصنع القرار فيها أو يؤثر فيه جذرياً رجل واحد، فهو واهم. فنحن سكان الجنوب، قاطني أشباه الدول والمحكومين بمسوخ حكومات، نحب أن نُسقط تجاربنا الذاتية حيث يخضع كل شيء لإرادة الحاكم الفرد، على البلدان الإمبريالية التي تخضع لميكانيزمات صنع قرار مؤسسية تقف من خلفها مولدات أفكار Think Tanks، ويدخل في حساباتها كم هائل من المعلومات الاستخبارية والدبلوماسية، والبرامج الاستراتيجية.
المؤسسة أقوى بتريليونات المرات من الأفراد، والفرد المتمرد على المؤسسة التي ينضوي فيها، لديه خياران لا ثالث لهما: إما أن المؤسسة ستلفظه فيفقد بذلك موقعه الخاص وحجم تأثيره المحدود، أو أنه سيضطر لمجاراة المؤسسة فيفقد تمرده.
إضافة إلى ذلك: هل تكفي لون بشرة الشخص، أو أصله، للقول إنه يمثل «تغييراً» ما أو تمرداً على المؤسسة؟ ماذا إذاً عن جون أبي زيد، وكوندوليزا رايس، وكولن باول؟ ثم ماذا عن حكامنا من أبناء جلدتنا، ألم نجربهم في الحكم، فماذا كانت النتيجة؟ سيقال إنّ آفاق التغيير من خلال موقع رئيس الولايات المتحدة لا تشابه أبداً الآفاق نفسها في موقع رئاسة بلد من بلدان العالم الثالث نفسها. صحيح! إنّ آفاق التغيير من موقع رئيس الولايات المتحدة أصعب بكثير، لوجود المؤسسة. الأجدى لهؤلاء المحللين أن يراهنوا إذاً على قيادات بلدانهم المتخلفة، فهم ملونون، وبدون مؤسسات!
أوباما، بتعييناته الأخيرة لأشخاص في الإدارة، لا يبدو من النوع المتمرد، ولن يكون أكبر من المؤسسة أو أقوى منها تحت أي ظرف من الظروف، بل هو ابن هذه المؤسسة الشرعي (كيف صعد في تراتبية الحزب الديموقراطي ليحصل في النهاية على ترشيحه للرئاسة دون أن يكون كذلك؟)، فهل يأمل منه أحد «انقلاباً» في المؤسسة؟
فوق كل هذا وذاك، لا بد من أن نقدر أن رئيساً أسود، يحمل اسماً مثل «حسين»، في بلد مثل الولايات المتحدة، لا بد من أن يندفع (أو يُدفع) باتجاه إظهار نفسه على عكس الصورة التي روّج لها المحافظون عنه أثناء الحملة الانتخابية: إنه صديق للإرهابيين، و«مرن» عند الحديث عن إيران.
تقع على أوباما اليوم، أعباء إضافية ليظهر نفسه أمام المؤسسة «متوازناً» و«قوياً» وقادراً على مجابهة التحديات الخارجية، فالانتخابات انتهت وعليه اليوم أن يجابه الكونغرس ومجلس الشيوخ ومجلس الأمن القومي وقيادات الجيش والاستخبارات. انتهى زمن الشعارات المطاطة التي تداعب آمال الجمهور.
إنّ مجموعة المحللين المتفائلين بأوباما، يتجاوزون قراءة مؤشرات الرأي العام الأميركي المناهضة للمحافظين الجدد وبرنامجهم، إلى توقع أنّ انتخاب أوباما هو انقلاب حقيقي في الإمبريالية الأميركية ورأسماليتها.
المعركة مع الرأسمالية والإمبريالية والولايات المتحدة لا تزال هي هي، والاستراتيجيات المناهضة لها ينبغي ألا تتغير بصعود أسود أو أصفر أو لاتيني أو عربي إلى مواقع صنع القرار الأميركي أو الإسرائيلي أو غيرها. هؤلاء الصاعدون محسومون طبقياً إلى جانب الرأسمالية والإمبريالية، يبقى علينا نحن أن نحسم مواقعنا ونرى الصورة بوضوح.
* كاتب أردني