سعد الله مزرعاني*يكاد المرء لا يصدق عينيه وهو يقرأ مشروع «القوات اللبنانية» للاستراتيجية الدفاعية التي يجب أن يعتمدها لبنان الرسمي والشعبي، في مواجهة الأخطار الداهمة أو القائمة. فبعد تمهيدٍ ـــ الهدف منه تأكيد تفوق إسرائيل بما يجعل إقامة توازن معها أمراً مستحيلاً ـــ تنتهي خلاصة المقدمة إلى أن «أي سباق تسلح جزئي هو مضيعة للوقت وهدر للمال. فإما سباق تسلح كامل وشامل، وهذا ما لا طاقة للشعب اللبناني عليه على الإطلاق، وإما مقاربة أخرى...».
في المقدمة السريعة تلك، يصفّي مشروع السيد سمير جعجع الحساب مع احتمال مواجهة عدوان إسرائيل بالقوة... وهو إذ يفعل ذلك للرد على المطالبين بالدفاع عن لبنان، بالقوة، في مواجهة التهديدات والاعتداءات الإسرائيلية، ينتقل سريعاً إلى «جوهر» الاستراتيجية: التهديدات المتوقعة ليست إسرائيلية فحسب. إنها «خارجية» مع «الجيوش المحيطة»!
ويتداعى هذا المنطق تباعاً إلى مزيد من الوضوح في التسمية: «إن لبنان، من حيث تركيبته المجتمعية التعددية، ومن حيث موقعه الجيوسياسي في قلب الشرق بين سوريا وإسرائيل... يُعتَبَر النموذج الأقرب إلى التجربة السويسرية». هذه الجملة الغامضة من حيث المبدأ، فيها كل الوضوح ارتباطاً بما سبقها (وبما لخصناه آنفاً)، لجهة مسألتين: المساواة بين سوريا وإسرائيل «المحيطين» كمصدري خطر محتمل على لبنان، و«الانسحاب» من الصراع العربي ـــ الإسرائيلي إلى «الحياد الخارجي» حيال الصراعات و«الأخطار الخارجية»... فهذا الصراع هو شأن فلسطيني، وبالنسبة إلى لبنان، «الإطار السياسي الأمثل المخوّل حل هذه القضية (قضية الشعب الفلسطيني) يكمن في جامعة الدول العربية ومقررات الأمم المتحدة».
وبعد هذا «التموضع» الذي يتجاهل بالكامل أولوية الخطر الإسرائيلي وجسامته على لبنان (من حيث احتلال أرضه واستهداف دوره ووحدته ومياهه...)، يمضي المشروع من أجل استكمال معالمه وهيكله، بدءاً بـ«العقيدة التنظيمية». وجوهر هذه «العقيدة»، «تطوير الجيش اللبناني وجعله قوة حاسمة ـــ من ضمن الإمكانات ـــ في مقدورها الدفاع عن الشعب اللبناني بحزم وفعالية عند الضرورة القصوى، وبعد أن تكون كل الوسائل الأخرى قد باءت بالفشل».
لم يكلف السيد جعجع وكاتب المشروع، نفسيهما، تفسير ما وقعا فيه سريعاً، من تناقض ما بين القول بإمكان تحويل الجيش، فجأة، إلى «قوة حاسمة»، وبين ما تقدم في المشروع، لجهة أنّ ذلك مستحيل بسبب تفوّق إسرائيل المطلق. أما التفسير الحقيقي، فسرعان ما تحمله السطور اللاحقة: ضرورة أن «تمثّل عناصر القوات الخاصة، رأس الحربة في العمليات العسكرية الهجومية والدفاعية، على حد سواء، والتصدي للتحديات الخارجية والداخلية». و«القوات الخاصة» هي، حسب المشروع، بعض وحدات الجيش اللبناني: اللواء المجوقل، المغاوير، مغاوير البحر، مغاوير الجبل، المكافحة والقوة الضاربة...». ووفق هذا السياق، لن يكون من قبيل «الأدلجة» أو الارتياب أو الافتئات، القول إنّ «الحسم» المطلوب والممكن، هو ذلك الموجه إلى الداخل تحديداً! ويكون هذا الاستنتاج تتمة منطقية لاعتماد مبدأ «الحياد» وموقعه، إزاء الصراعات القائمة في المنطقة، وإزاء مبدأ المساواة ما بين سوريا وإسرائيل، وإزاء وقائع أخرى من نوع التعويل أو الرهان على الصداقات الدولية، وخصوصاً مع الولايات المتحدة الأميركية.
أما المقاومة وعناصرها وتجربتها، فيحيلها مشروع الاستراتيجية إلى صيغة «حرس وطني». يعترف المشروع ولو عابراً، بأهمية تجربة المقاومة في العمل السري، لكنه يلحقها بالكامل بقوة «الحسم» التي هي الجيش، بعد أن يخضع هؤلاء (عناصرها) للتدريبات الأساسية وتناط بهم المهمات العملانية المختلفة، و«يعتبرون بمثابة قوات دعم ومؤازاة للقوات الخاصة».
يقتضي هذا «الإخضاع» حكماً وفق السياق والنص «القوّاتيّين»، إلغاء خصوصية المقاومة كواقع، وخصوصاً كبنية وتجربة: أي إلغاء مميزات المقاومة، وإلغاء أفضليتها، في ظروف العجز الرسمي (وفق المشروع) عن تأمين إمكان الدفاع ضد الخطر الخارجي (المتفوق).
أمّا الجملة اللاحقة لذلك، في مشروع الاستراتيجية «القواتية»، فتصبح أقرب إلى نوع من الديماغوجية المكشوفة والتناقض الفاضح والمفضوح: «الاعتماد على نموذج «حزب الله» الناجح، ولكن بتطبيقه في الأطر الشرعية ذات الصفة، وتعميمه على كل المناطق اللبنانية»...
يدرك السيد جعجع كصاحب تجربة ميليشياوية شعبية قديمة (وقائمة وفق ما نحسب)، أن الجيش لا يستطيع أن يحل محل قوات الأنصار أو قوات المقاومة، ذات الطابع الشعبي. لكنه لا يعبأ بذلك، رغبة في إضفاء طابع «استراتيجي» محوره دعوة مكشوفة ومكررة ومستمرة: نزع سلاح «حزب الله» وإسقاط طابع العدوان عن الدور الإسرائيلي. وبذلك، يصبح ما هو مقترح، ليس استراتيجية دفاع وفق ما هو مطروح على جدول أعمال «مؤتمر الحوار»، بل صيغة ركيكة ومفضوحة لتكرار المطلب الأميركي والإسرائيلي. (ومطلب «المعتدلين» العرب)، بإلغاء المقاومة ونزع سلاح أفرادها وإعادة «تأهيلهم في بعثات أمنية وتدريبية إلى واشنطن!». وفي النهاية (أي نهاية المشروع)، ومنعاً لسوء التقدير وتباين التفسير، يضع مشروع «القوات» خلاصته الحاسمة: «إن تبنّي المشروع، من شأنه تقليل مستوى الأخطار الخارجية (وعد، هنا، متناقض طبعاً، بوقف التهديدات الإسرائيلية ونسيان مؤقت لـ«الخطر» السوري والفلسطيني)، بالإضافة إلى تأمينها خطة احتياط بديلة لمواجهة أي احتمالات أو تطورات داخلية أو خارجية غير متوقعة».
يؤكد مشروع «القوات اللبنانية»، مرة جديدة، الحاجة إلى تحديد أساس البحث، وتحديد مصدر الخطر، وتحديد العدو من الصديق (ولو وفق أولويات واضحة في المرحلة الراهنة!). هذا بالإضافة إلى ضرورة التذكير بأمور لا بد من التذكير (للأسف) بها: أولها، أن لبنان ما زال يعاني من الاحتلال الإسرائيلي لبعض أرضه، وأن قادة إسرائيل، يواصلون ممارسة العدوان والتهديد بالانتقام والاستعداد له، يومياً. وثانيهما، أن موضوع النقاش هو التفاهم على استراتيجية دفاعية ضد هذا العدو الصهيوني لا ضد أي «عدو» آخر، سواءً كان يحيط بنا أو كان «لاجئاً» في ظهرانينا، بسبب العدوان الإسرائيلي نفسه!
أما الأمر الآخر، ففي ضرورة تكرار أن الخلل في استراتيجية «القوات»، إنما هو جزء من خلل أشمل يقع أخطره في نظام علاقات اللبنانيين وفي تداعيات هذا النظام الطائفي، نفسه، المبني على صيغة متخلفة أثبتت بالفعل أن الخطر على لبنان لا ينحصر في العدوان الإسرائيلي «الخارجي» فحسب!
* كاتب وسياسي لبناني