نهلة الشهال‏... فيرجى من ممتهني الرياء التوقف عن الكلام الأعوج، من قبيل أنها خطيئة الصواريخ التي تصب في ‏سديروت، بلا أذى يذكر ولا فائدة، أو أنها مسؤولية حماس التي أعلنت انتهاء «هدنة» لم تحترمها أصلاً ‏إسرائيل يوماً. هذه ذرائع تقنية. أما جوهر الموقف فكشفه قادة إسرائيل أنفسهم في خضم صراعهم على ‏السلطة: الانتهاء من القدس، الانتهاء من «عرب الـ48» كما يسمونهم، الانتهاء من مسألة اللاجئين، ‏تكريس إسرائيل دولةً يهودية باعتراف الفلسطينيين والعرب قبل أي كان.‏
حسناً، المشكلة إذاً هي في الصراع على الزعامة الإسرائيلية: تسيبي ليفني تحلم، كما تقول، أن تكون ‏غولدا مائير هذا الزمن. عليها أن تستحق المقارنة، ولا يحصل ذلك دون تجاوز المثال. جرى تجاوز نتنياهو داخل ‏حزبه من على يمينه. عليه إذاً أن يعيد موضعة موقعه بمزيد من الانزياح إلى اليمين (نعم هذا ممكن)، ‏إيهود باراك لا يرى سواه جديراً بقيادة إسرائيل وعليه إثبات ذلك، أما إيهود أولمرت فلا يخشى، كأي ‏غريق، من البلل. ليست غزة إذاً سوى ضحية هذا التناحر! إلا أن هذه ذرائع تقنية، هي الأخرى!‏
الحق أن المسألة الفلسطينية وصلت إلى مفرق. بعد الجدار المكتمل، وبعد توسيع المستوطنات في الضفة ‏الغربية وإنجاز الطرق الالتفافية، بعد نشوء الباندوستانات الفلسطينية المقطعة الأوصال، بعد ضم أحياء ‏القدس وآخرها الشيخ جراح، بعد التقدم في تهويد الخليل، بعد وبعد... لا بد من خطوة نوعية تقلب الكم إلى ‏كيف. أو وبوضوح أكبر: جرى الانتهاء من كل ترتيبات «إنجاز الـ48»، وهي المهمة التي قال شارون إنه جاء من أجلها إلى السلطة في 2001. فلا بد إذاً من مطابقة الإطار مع الواقع. وهذا لا يستقيم بوجود ‏غزة متمردة على الإطار. وبخلاف الضفة التي يجري سحقها رويداً، بمزيج من القمع والقضم ‏المتواصلين، ومعهما استقرار اليأس من وجود أفق لمسار مختلف، تحولت غزة إلى حالة «شاذة».
صحيح ‏أنها محاصرة ومجوّعة، صحيح أنها تعيش بألم انقساماتها الداخلية وفزعها وما تستجره من انحرافات، وأن ‏الأفق هنا مسدود هو الآخر. ولكن غزة تقول شيئاً آخر مغايراً لما تقوله السلطة القابعة في رام الله. ثم هي ‏كتلة ممتدة من الأرض والبشر، يصعب إخضاعها. كيف ستحقق إسرائيل إذاً «انجاز الـ48»؟
ها هي ‏تصطدم بالعقبات الماثلة في الطريق، هنا في داخل الحيز المعني، ثم في محيطه الإقليمي الذي ما زال ‏بعضه يقاوم أو يعاند، فيما بعضه الآخر يخشى ما سيولده التغيير من ارتدادات... يا للفوضى هذه التي لم ‏يفلح في تهذيبها لا احتلال العراق ولا حرب 2006 على لبنان، ولا ذلك الكم الهائل من التواطؤ السياسي ‏مع واشنطن وتل أبيب، مصحوباً بعدته من الفساد والقمع وتأجيج الصراعات الداخلية من مذهبية وسواها.
تقع الغارات الدموية على غزة عند تقاطع كل هذه المعطيات. ثم إن لها وظيفة «تجريبية»، هي امتحان ‏مدى الوحشية التي يمكن ارتكابها: مزيد فمزيد، وتفحص النتائج وردود الأفعال. لا بأس ببضع تظاهرات ‏من هنا وهناك، ولكن، ما حجمها ونوعية غضبها؟ ما قدرة الأنظمة العربية على الابتلاع والتحمل (انظر ‏قائمة الدول التي وافقت على انعقاد القمة العربية الطارئة... المتوقعة بعد أسبوع من العدوان. ثم يا للتهديد ‏بالقمم العربية الجدباء)، ما هو مبلغ التضامن العالمي مع... إسرائيل، التي تتحمل تهديد صواريخ حماس! ‏هو عالم مقلوب على رأسه، وصل تدجينه إلى حدود متقدمة، وباتت نظرية صموئيل هانتنغتون رداً على ‏ماو تسي تونغ ـــ أيام الفييتنام ـــ من ضرورة إفراغ الماء الذي تسبح فيه الأسماك، مستبطنة ومقبولة.‏
وهو، هذا العالم المقلوب على رأسه، ما يتيح للسلطة القابعة في رام الله التحايل على الواقع الفاقع في ‏وضوح معناه، والاستمرار في «أداء مهماتها»، عوضاً عن بقية من سلطة فعلية ما زالت تمتلكها، سلطة ‏توصيف اللحظة بمعناها التاريخي: فشل «العملية السلمية» وانتهاؤها.
ما زالت السلطة تملك الاستقالة من ‏دور الحجة بيد إسرائيل، والستارة التي تحجب الفعل الإسرائيلي، ووضع العالم أمام مسؤوليته، وحيرته، ‏عوض المشاركة في الخديعة الشكلية، والجريمة الفعلية.‏