أنسي الحاج
بين الصواعق والناس

لم يَقْهَر أحد من هؤلاء الحكّام والسياسيين نفسه إلاّ في موضع الكرامة، ولا مرّة في مواضع الضِّعَة والأنانية والضحالة والرياء. يقهرون أصالتهم أو ما تبقّى منها، صدقهم أو ما شابه، وطنيّتهم، عفويّتهم، شجاعتهم، صوت أجدادهم. وطبعاً يجهلون نداءات المستقبل فلا لزوم لأن يقهروها.
يجب أن يكون الجالسون في السلطات كالواقفين موانع بين الصواعق والناس، تَنْهَد إليهم النفوس كأنّهم أولياء، كَهَنَة الهيكل، حاملو الأعباء والمؤتمنون على أسرار تتجاوزنا ويفرحنا أنهم حاملوها.
عندما ينام اللامسؤول يجب أن يشعر بأن المسؤول يقود سفينة نومه، وأن هذا يكفي لطمأنينته. هكذا يكون شعبٌ لا مجموعةُ تائهين وهائجين. وهكذا يصبح التعاقد بين منتجين منصرفين إلى إنتاجهم أو كسالى إلى كسلهم، وطبقة راعية تتحمّل المسؤوليّات وتَضْمن أجواء العيش الملائمة. لا غنى للسلطة عن إشعاع فوق المألوف، فهذه طبيعةٌ سواء في المقدّس أو في الوثني. وكلاهما مقدّس وكلاهما وثني.

أئمّة

الأفكار كالفوانيس، تتفاوت درجة أنوارها بحسب الطاقة والحجم. الفانوس الصغير الفتيل والقليل الزيت شحيح الضوء كما هو الخافض الذهن شحيح الفكر. المساء والصباح موجودان في الرأس البشري أيضاً. الشمس في شتّى حالاتها. وفي غيابها أو انحجابها الموقّت. هناك وجوه تضيء المساحة كما يملأ الأسد البريّة. لا تفسير لذلك غير الحضور. الإشعاع نعمة. قد لا يكون الخفوت لعنة بل رحمة، لكن الإشعاع نعمة. وجوه ترفل بالأنوار وكلّما أشرقتْ تراكمت ظلالُها. وإذا توافرت لها أصوات عميقة صادرة عن كهوف وعابرة للأعمار وحاملة للفصول يغدو أصحابها سَحَرَة. سحْر أئمّةٍ يَعِدُ وجودُهم الحياةَ بجوائز لم تحلم بها.

«غداً سندخل المدينة»

ما أقلّ القراءات التي تَشْرح الصدر! قراءة إبراهيم سلامة إحداها. «غداً سندخل المدينة» كتابه الجديد إعادة وصل بالضحك، وبِرَفْع الكلفة مع المتمترسين وراء الوَهْرة المصطنعة والرصانة التي ينكشف خواؤها عند أول زكزكة. مذكرات متقطّعة فيها المخيف وفيها الطريف وفيها كشف مخبّآت خطيرة، كما في «أيلول الأسود» وحكايات وصفي التلّ، فضلاً عن قصّة سليم اللوزي، أو أمّ كلثوم وجيهان السادات. توقّف ذو الفقار قبيسي في مقدمته عند العلاقة بين السخرية والمرارة، وبين السخرية والحكمة، على قول لسقراط، وهذا موضوع من موضوعات الفلسفة منذ القِدَم، حتى إن بعضها ازدوج اسمه لا بالسخرية فحسب، بل بالسينيسم، وترجمتها الكَلْبيّة، والبعض يعتبر أن تطبيقها متبلور أشدّ ما يكون في السياسات الأميركيّة، علماً بأن سياسات الاستعمار القديم كانت أقلّ صفاقة في استهزائها بالقِيَم شكلاً فقط، وأمّا في الجوهر فكلتاهما واحد ومن مَعْدن ماكيافيليّ لا يَمتُّ بصلةٍ إلى قيم شُرِّبنا نحن المُسْتَعْمرين روحها وظننّاها سياجاً عامّاً، مثل قيم الثورة الفرنسيّة، وإذا بهذا الدم يصبح بدوره حبراً على ورق.
شَرَدْنا ونعود إلى إبراهيم سلامة الذي يقتفي آثار اسكندر الرياشي، مع أنه كان من جلساء إميل خوري المترصّن المسترئس الذي لم يَعْتَد أحد أن يناديه إلاّ بـ«الأستاذ الكبير». يفضح إبراهيم، هذا الرجل العفوي الناري الذي «لا يطيق الزاحلة»، العديد من الغشّاشين، بين نصّاب دولي مطارَد وكذّاب أممي مُنَصَّب. ويقابل «آلهة» من نوع ماو تسي تونغ وأشباه آلهة من صنف ميتران ولا يبدو عليه أي ارتباك، بل بالعكس ينفض آثارهم عن كتفه كأنهم غَبْرة عابرة. وحسناً يفعل. وفصله عن الصين يطقطق من الضحك. كذلك عن أبو حسن سلامة «الذي شخر قليلاً ومدّ رجليه حتى تجاوزا الطاولة»، وعن أبو أيّاد و«باعة الكَشّة والدجل لأن الاستخبارات المصريّة التي كان يعمل معها أبو أيّاد استغلّته وضحكت عليه ـــــ كما ضحك هو على شعب لبنان وشعب فلسطين حين قال: «إن طريق تحرير فلسطين يمرّ من جونية».».
يترك الكاتب فجوات. كان عمل معروفاً لو أنجز، مثلاً، بورتريه لإميل خوري، وآخر لسعيد فريحة غير متّكل على ما نعرفه عنه بأقلام أخرى، كذلك كمال خير بك، منح الصلح، سليم اللوزي، إحسان عبد القدّوس، نبيل خوري، غسّان كنفاني، سليم نصّار، ياسر هواري، ميشال أبو جودة، الياس الفرزلي، فضلاً عن أكرم الحوراني وصلاح الدين البيطار إلخ... ناهيك بصاحب مقدمته نفسه، ذو الفقار قبيسي. لقد عرفهم أكثر من غيره، وعرفهم من زوايا لم يعرفهم خلالها كثيرون، وقلمه الرسّام الجامع بين الملاحظة التأريخيّة ـــــ النفسيّة وميل الكاريكاتور إلى الهزل الانطباعي الذي غالباً ما يصيب الهدف أكثر من أي تحليل، كان سيأتي بمرغوب.
ننتظر الجزء الثاني. وليكن أيضاً بلا رحمة. ولو تخلّلته أحكام سطحيّة واختزال حوادث وأحداث وتَرْك القارئ على جوعه، لا بأس. ليسلّم الكاتب نفسه إلى سجيّتها، فهي مُسجّلة صادقة، وإن أخطأت في الشكل تُصوَّب من خارج، ولا يَخَف جموح عفويّته فحيث انقاد لها شَرْقَطتْ.
أوكسيجين يُنقّي الدم، وأسوأ ما في هذه الكتابات المستهترة بمراسم الكتابة الوجيهة المحنّطة، أنّها تنتهي بسرعة.

الرأس واللسان

يُنْصَح للكاتب بالتجرّد توخّياً للموضوعيّة. لا معنى لهذا الإرشاد. هناك كاتب مخلوق بمسافاته من الأشياء وآخر يَغْطس غَطْساً. الذي رأسُهُ يسبق لسانه والذي لسانه يسبق رأسه. الأول قاضٍ وأدبه مثل كلام القضاة، قد يقتل وقد يُبرّئ لكنّه لا يُحمّم الروح كالشلاّل. الثاني يَخْلَع الأبواب ويشقّ الطرق. أمّا شرطه فليس أن يكون جارفاً فهو جارف، بل أن لا تجرفه حيويّته بصخبها النافد الصبر جرفاً سطحيّاً. وهنا أيضاً لا يُشترط على العفوي الهاجم: فإمّا أن تكون حممه عميقة أو لا تكون. قد يُخفف التأنّي بعض النَّزَق، لكن خطر التأنّي هو قَتْل العفويّة. الخلاصة: يكون أو لا يكون. وقد تصحّ معادلة «يُصبح أو لا يصبح» عند أولئك الذين يمرّون بتحوّلات مصيريّة.

لا طوبى

ما أنت بغير كتل صمّاء تدور ولا تعرف أنها تدور وتُخيف ولا تدري من تأثيرها شيئاً.
المُعرَّض المكشوف الصدر معرَّضٌ بسبب خياله لا لأن قاتله جلاّد بل لأن الجلاّد لا يعرف أنه قاتل.
ولا يُظَنُّ أنه عزاء، هذا الفرق الفاجع، فإنما هو أمعان في الرعب.
لا «طوبى للذين يُعزَّون» فلا يُعزّى، لا «طوبى للذين يُعزَّون» بل للذين يستعيدون الحقبة السابقة للحياة والموت، يوم كان الإنسان، قبل المسيح بعصور، يمشي على الماء دون أن يخطر له الغرق فلا يغرق، ويتزحلق من قارة إلى قارة مع الهواء ويؤوب مع المساء ولا يبقى في ذاكرته غير قوس مشدودة إلى أكثر.
ليت الإنسان يُحمى من مشاهدة اللانهاية مثلما يُحمى من رؤية العدم. كيف يُستطاع اجتياز النفق دون اختناق، ولو كان بَعْدَه النور؟ ليس بعزاء أننا نعرف، بل هو الإكراه نزيّن لأنفسنا أنّه بطولة.

ثم تأتي الحوادث

اضحكْ تضحكْ لك وجوهك. المكان هو لمَن لا يشعر بأنّ له أو ليس له مكان. أولئك أنتم، أصحاب البيوت. ماذا تَقَدَّم، ماذا تأخّر؟ اسأل بالأحرى ماذا استطعت أن تقول، ماذا مشيت. وخسائرك ليست أرباحاً لسواك.
عند النهاية، وما زلنا نعيد البداية. الحريّة هي أن لا يُمسكك أحد. حريّة مسمومة بمراقبة ذاتها. ما هذا. (كتبتُ ما هذا بلا علامة استفهام فوضعتْ لي الآلة علامة استفهام. بلا علامة استفهام لأنه ليس استفهاماً. هو تبهيت. العلامات (تعجّب، ثلاث نقاط، استفهام) كانت للأيام الخوالي عندما كانت الكتابة تطفح بالمراهقة، بحواجب المراهقة، بالغَصَص والتيه. مجاعات تَنْغل وتتخابط في العروق. ما هذا. ما إن تغادر المراهقة حتّى تصبح مديراً عامّاً. تعطي الشحّاذين وتُقامر. ما إن، حتّى. تصير وجيهاً وسخيفاً. تُنكّل بالأغبياء. أديّوسْ مراهَقة، جاء دور عمرٍ مملٍّ ومجهول، مجهول ومعلوم، لا شيخوخة ولا طفولة، صمود. ما هذا. موتٌ في الصمود. أديّوسْ أيّها الموت أيضاً، كان الأمل بك. تُراكَ بدورك خيبة.

تلك التأوّهات كم كانت مضحكة.
العيون تعكس خطأ، تلقي على البشاعات أرديةً رومنتيكيّة. الأبخرة. تأوّهات الأعضاء. ما هذا. يجب أن يكون من المهد إلى اللحد فوراً إذا تبيّن أن الأخ سيملأ الدنيا هباء. تُعطى الحياة لمَن؟ يجب أن تُعطى لمَن يزيدها نظافة ويفوقها جمالاً. يذهب وتبقى بعده أحلى ممّا كانت. كم واحداً يستطيع أن يحقّق هذا للحياة؟ لو تكاثروا عليها لوصل الإنسان إلى وقت لا يعود فيه يغادر. من فرط النظافة والجمال. ولا يعود يأتي أيّ كان. تتغربل وحدها. عنصريّة، لا مفرّ.
تصبح قوّة الحياة من الضغط بحيث لا يمكن الإفلات منها. لا يعود لسؤال ماذا وراء الموت معنى، لأنه يصبح ما قبل الموت هو حياة لا تنتهي بقصْر نَفَس الحياة ولا بعطْل صحّي أو قضاء وقَدَر. يصبح فخّ الحياة كأن تقول فخّ السعادة. لا يعود يُسمح بمغادرته إلاّ للحَسَك. ما هذا. هذيان الصبح. شَيْب الشِّعر. ولماذا الشِّعر. مثله مثل الحبّ، حقّ يُراد به باطل. لا حقَّ ولا باطل. الجلوس في رأس الجبل لتمزيق العاصفة. أعلى من الجبين، والغيم تحت الأقدام. جَعْلَكة العاصفة وهي تتكوَّن أمام العين. شرْبُ الرعد مع القهوة. أعلى من الماعز، ثائر الأرض. فوق الكلمة. في البدء كان الجبين فوق الكلمة.
يستهلُّ المتكهّن سكّته بالتنبّؤ، وعلى نفسه أيضاً يدعو، وإيّاها يُخضع للاستحقاقات. حين يحين الحين، على العرّاف أن يخلع قبّعته أمام جبينه في المرآة ويشكر ويهنّئ كأنّه ليس هو المحكوم. لاعب الغيب، إذا دخل النادي المخيف، يحسب نفسه قد نجا وأصبح من أهل الرَّجْم وأنّه لن يكون من المرجومين.
ثم تأتي الحوادث عليه.