يعرفها رواد مقاهي الحمرا ولا يعرفونها. امرأة سبعينية تبيع الورد بأناقة وكبرياء لا يمتّان للاستجداء بصلة. ذاكرتها نضرة كالوردة التي في يدها: مع اقتلاع كل واحدة من بتلاتها، تنكشف سنوات من المآسي واجهتها هذه المرأة بالطيبة والمثابرة
رنا حايك
«اللي ما عنده شي ما بيخسر شي يا بنتي»، بهذه الحكمة البسيطة تعلن ناديا عبود انسحابها من دوامة ضغائن النفس البشرية.
تحكم الطيبة تفاصيل حياة هذه المرأة، فقد قفزت فوق الظلم المتواصل الذي تعرّضت له في حياتها، برشاقة روح صافية لم تنغمس يوماً في أشراكه القاتمة.
عام 1935، كانت المعاناة بانتظارها في المنزل الصيداوي الذي ولدت فيه. خمسة أبناء لأب سكّير لم تلبث الزوجة أن ضاقت ذرعاً به، فحملت الأبناء وهربت بهم. لم يكن باستطاعتها إعالتهم، فوزعتهم على الأقارب حيث عملوا خدماً في بيوتهم. كان عمر ناديا سبع سنوات حين منحت فراشاً «على التتخيتة» في أحد المنازل، ونُذرت خصوصاً لعجن الطحين وخبزه.
بعدها كانت بيروت: بيوت الأغراب بعد بيوت الأقارب، وبعد العجين، حلّ الضرب والتعنيف. «تعذبت كتير»، تقول. تفلت منها دمعة فلا تجتهد في استدرار المزيد، تمسحها بخفر وتكمل الحديث بكبرياء لا تتنازل عنه.
عملت ناديا سنوات متواصلة، كان مدخولها يخصّص خلالها لتسديد أقساط أختيها في المدرسة الداخلية. أما الصبيان فقد بقيا مع الوالد الذي اشترى لأحدهما عربة جوالة، وأصبح الثاني سنكرياً. الوالدة كانت تستحوذ على ما بقي وتجمع المال لتشتري أرضاً في عمشيت، وبيتاً في بيروت، لم يلبث أن «ضحك عليها الخوري وبيّعها اياه بتراب المصاري»، فقد كانت الأم أمية. واقع كان الدافع الأول وراء اندفاع ناديا لتحصيل ما تيسّر من العلم. استأجرت الصبية بيتاً قطنت فيه مع والدتها وتحوّلت للعمل في تنظيف المكاتب نهاراً وتعلّم اللغة الإنكليزية في المركز الثقافي البريطاني مساءً. فـ«الجهل عدو الإنسان». في صف اللغة الإنكليزية، لاحظ الأستاذ وجود ثغرة ما لدى الطالبة. طلب منها كتابة «ذهب الولد إلى المدرسة» على اللوح فعجزت عن ذلك. قال لها: «ما بتعرفي عربي وجايي تتعلمي إنكليزي؟». بدل أن تحبطها هذه الجملة، حفّزتها على طلب المزيد من العلم. فذهبت فوراً والتحقت بفصول محو الأمية في المقاصد. كانت الأعباء المالية قد خفّت نسبياً عن كاهلها، إذ تخرّجت الأختان، نالتا شهادة السّرتيفيكا، وبدأتا العمل بائعتين.
كانت ناديا تعمل في مكتب إحدى الشركات الألمانية في الستينيات حين تعرّفت إلى ريمون كدالزو هيرناندس، الكوبي الذي يعمل في مكتب من المبنى ذاته. لم يكن يتقن العربية. وكانت هي تتقن الإنكليزية، فوفّق الله الرأسين باللغة والحب، ثم بالزواج.
اقترح أن يعيشا في كوبا، فقبلت فوراً «تإطلع من هالتّعب هون». تآلفت ناديا بسرعة مع الحياة على تلك الجزيرة، وأحبتها، لكنها لم تنج تماماً من التعب، إذ كان متربّصاً بها «هونيك» أيضاً. كان كاسترو قد استلم الحكم. «تعجّبت من الفقر. الأكل عالبطاقة، ونوقف بالدور تنستلمه»، لكن في الوقت ذاته «المياه والكهرباء والطبّابة ببلاش». أسعد ذلك ناديا التي «انبسطت من كوبا لإنو علّمتني». فهناك أيضاً، لم تفوّت ناديا فرصة التّعلم، وسرعان ما التحقت بالمدرسة المجانية لتتعلّم اللغة الإسبانية وبعض علوم الجبر.
فضول معرفي فطري يسيطر على تلك المرأة التي لو توافرت لها الظروف المؤاتية، لكانت تعمّقت في مجال التحصيل العلمي. زارت هناك متحف نابليون وهيمنغواي «هيدا الكاتب المشهور»، بينما عمل زوجها في الحقول المؤممة نهاراً وحارساً للحي الذي يقطنونه في بعض الليالي. كانت حياة هانئة في سانتا كلارا رزقت خلالها ناديا بطفلها الأول والوحيد، لكن الفقر «اللي لاحقها» أتعبها، وفضّلت أن ينشأ ابنها في لبنان، فعادت به على أن يلحق بهما زوجها بعد ثلاث سنوات. لم تطل الإقامة عند أختها التي بادلتها تضحياتها السابقة بتأفف وسوء معاملة. دفع ذلك بناديا إلى استئجار شقة واسعة انتقلت إليها مع والدتها. وسرعان ما انضمت إليهما أختها وزوجها الذي كان يغيب لياليَ عن البيت بسبب عمله في الجيش. كانت تلك فرصة مثلى لذلك الرجل كي يلعب دور الديك، فأقنع النساء: «إنو عيب النسوان تعمل عقود أجار بإسما بوجود زلمي». بعد ذلك بثلاث سنوات، استند ذلك الزلمي على عقد الإيجار الذي حرّر باسمه ليطرد ناديا وأسرتها من البيت الذي استأجرته هي.
ظلم جديد تعرّضت له دون أن يلوّث صفاء روحها. فناديا لا تزال حتى اليوم تبتسم وهي تتحدث عما عانته من والدتها وأختيها. فالأخت الثانية «ما بتقلي مرحبا» رغم أنها انتشلتها من كوخ التنك الذي كانت تقطنه في برج حمود،
مع زوجها السوري الذي حصل على الجنسية اللبنانية، على عكس زوجها الكوبي الذي لم يحصل عليها حتى اليوم، عاشت ناديا حياتها «ترقيع»: توصّلت إلى إيجاد عمل لزوجها في الكافيه دو باري، وعادت هي إلى تنظيف المكاتب، لتتوصّل إلى إدخال ابنها إلى المدرسة، إلى أن اشتعلت الحرب، فقدّمت العائلة لجوءاً سياسياً إلى إسبانيا.
«مدريد جنة. أندم كثيراً لأنني غادرتها. حظيت هناك بحقوق لم أحظ عليها في بلدي». هناك أيضاً عملت في التنظيف، وباع زوجها المثلجات في كشك أمّنته له الدولة. لكن ابنها كان قد تعلق بلبنان، والحرب انتهت، فاستجابت عام 1996 لنداء أختها التي دعتها عبر الهاتف لاستغلال فرصة «تزايد المسلمين في لبنان وسعي المسؤولين إلى تجنيس المزيد من المسيحيين لتحقيق التوازن».
أجرى ابنها المقابلة في الدوائر اللبنانية المختصة بمنح الجنسية. ولكن، عوضاً عن الحصول عليها، منح رقم ملفه ووعداً بالاتصال به لم يتحقق حتى اليوم. ولّت سنوات الصحة وتقدم العمر بناديا. «ما حدا بيوظفني وعمري 73 سنة». تفرّغت للاعتناء بزوجها الذي أصبح ضريراً بعد إصابته بضغط العين وعدم قدرتها على دفع تكاليف عملية تبلغ حوالى 5000$ لتعيد له بصره، وابنها الذي يعمل مترجماً من الإسبانية إلى العربية، فلا يبقى شيء من أجره، إذ يسدّد 3 ملايين ليرة سنوياً بدل إقامته في لبنان. في الصباح تطبخ، خلال النهار تقرأ كل ما يقع تحت يديها من كتب، وفي المساء، تبيع الورد. «بس بعد عندي أغلاط إملاء» تقول لائمة نفسها. تتحدث عن كتب قرأتها وتؤكد أنها لو أتيح لها أن تكمل علمها لدخلت إلى الجامعة. فـ«المعرفة نور»، لولاها لما استنتجت الظلم اللاحق بها في هذا البلد «اللي عايش شعبه عالمظاهر، بيعمل عن حاله دعاية عالفاضي لإنو مواطنينه ما عندن حقوق».


«دعوا الأزهار تتكلم»

كانت ناديا تطالع كتاباً «بيحكي عن البلد»، حين لمعت الفكرة في رأسها. أحد فصوله «دعوا الأزهار تتكلم»، يتناول تنسيق الزهور. قررت: ستبيع الزهور «لإنو حلو، مش متل العلكة أو الدخان، شحادة. وأنا ضحيت عمري تما إشحد». ناديا لا تشحذ، تبيع جمالاً ونضارة لمن يريد. لا تلحّ على الزبائن، فقط تمرّ وهم ينادونها لو أرادوا.