الضباب يليق بعاصمة أوروبابيار أبي صعب
لا تكتمل هذه المدينة إلا بالضباب. تماماً كما في صور جوزف تزوديك التي تنبعث منها كآبة غامضة. براغ عاصمة الكآبة بامتياز. الكآبة اللذيذة التي يصعب وصفها، تحملها فيك كمرض وراثي أو لعنة قديمة... لا أحد بوسعه أن يخترق سرّها. منذ ألف عام والمشهد نفسه، والسنوات تعبر عند أقدام الهضبة التي شيّد فوقها القصر الشهير والكاتدرائيّة. كل هذه الخضرة التي تحيط بتحف معماريّة تختصر تاريخ أوروبا. توالت الممالك والجمهوريات، الثورات والثورات المضادة. تبدّلت الإيديولوجيات، وهي على حالها: مدينة صامتة وهادئة ومتكتّمة، تعطيك ما تطلبه حين لا تنتظر شيئاً. تأخذك من يدك إلى حكايات قديمة وأساطير، إلى حيث التاريخ وعالمك الحميم يلتقيان، بمنتهى الطبيعيّة، في ساحة واحدةأهلاً بك في المدينة الكوسموبوليتيّة بامتياز، على مسافة ثلاث ساعات ونصف الساعة من بيروت (فقط). موئل الشعراء والكتاب والرسامين والمعماريين... التي احتضنت التيارات الفكريّة والجماليّة، وكانت مركز الحركات الطليعيّة الأوروبيّة. نحن في أوروبا الوسطى، في بلاد تماهت سهواً مع «الشرق»، على امتداد نصف قرن، بسبب أهواء التاريخ. أهلاً بك في قلب أوروبا، وفي عاصمتها: كل التاريخ الفنّي والفكري والموسيقي للقارة العجوز عبر من هنا. براغ مدينة يختبئ بين أزقتها، في واجهات بيوتها، في بهاء معابدها، الكثير من مفاتيح وعينا وذائقتنا ومخيلتنا، نحن سكّان الكوكب، أهل القرن العشرين.
بسرعة ينبعث فيك ذلك المراهق الذي وصل إلى ربيعها متأخراً، لكنّه عاشه مليّاً على بعد آلاف الكيلومترات في قلب حرب أهليّة ضارية، حتى صار ذلك «الربيع» جزءاً من ذاكرته الشخصيّة. لذلك أوّل ما سيخطر ببالك وأنت على ضفاف الـ «فولتافا» أن تنحرف يساراً، تصعد صوب ساحة الجامعة، تبحث عن طيف يان بالاك. حسناً فعلت حين أفلتّ من رفاق الرحلة، لتحجّ وحيداً إلى ساحة فانسسلاس، تقف عند أقدام تمثال الملك ــــ القديس والرمز الذي يوحّد الأمّة: هنا أحرق الطالب العشريني نفسه حيّاً سنة ١٩٦٩، احتجاجاً على الدبابات السوفياتيّة التي أجهضت أحلام الانفتاح والديموقراطيّة والاشتراكيّة الأخرى. ذلك العام، كانت رياح التاريخ قد قذفت بميلان كونديرا صاحب «المزحة» إلى باريس، مجرّداً من جنسيّته... لكن براغ لن تبرح وجدان ذلك المواطن الفرنسي المستجدّ، بعد اعتناقه لغة موليير. نعم المدن تعيش فينا غالباً وليس العكس.
في ساحة فنسسلاف التي انطلقت منها «ثورة المخمل»، تبحث أيضاً عن طيف ألكسندر دوبتشيك لا يزال منتصباً هنا كما شاهدته في فيلم وثائقي بالأبيض والأسود، بين خطباء «الفوروم المدني» قبل أن ينساه الجميع في السجن سنوات طويلة. تريد أن تسأله: أيّها الرفيق، بربّك قل لنا كيف السبيل إلى «شيوعيّة» من نوع آخر؟ من متجر الأسطوانات القريب تخرج بأسطوانتي فريق الـ Gipsy.CZ اللتين أوصاك بهما رائد، الرجل الذي فتن ببراغ فخلع اسمها على الحانة الشهيرة التي يديرها في بيروت. وتظفر بتسجيلات من سنوات الروك والرفض والاحتجاج: أسطوانة عليها صورة قديمة لبيتر كالاندرا بالشعر الطويل والغيتار ولحية الهيبيز. الموسيقى الغجريّة في كل مكان، هنا تتعايش الثقافات والأعراق التي ترسبت بعد انهيار الإمبراطوريّة النمساويّة ــــ الهنغاريّة...
براغ مدينة ينبغي أن تتجوّل فيها بمفردك، أو برفقة شخص قريب. ينبغي أن تتحسس وحدتك جيداً، عند كل منعطف، كي تعانق روح المدينة وتلتقط إشاراتها السريّة. كنتَ تتصوّر كل شيء سوى أن تبكي وحدك، كامرأة مهجورة، في أحد أزقّة الغيتو اليهودي، قبل أن يقتحم المكان قطيع صاخب من السيّاح والكاميرات، فيعيدك إلى أرض الواقع. الكنيس اليهودي ذو النمط الغوطي البدائي يعود إلى القرن الثالث عشر، لعلّه الأقدم في أوروبا. وعلى برج البلديّة القديم ساعتان: كل منهما تشير إلى الزمن بطريقة مختلفة... الغيتو ما زال على حاله، وهو من أقدم غيتوات أوروبا بعد البندقيّة (فينيسيا)، حيث ولدت فكرة عزل اليهود أصلاً ـــ في القرون الوسطى ـــ بعيداً عن أهل المدينة.
تبحث عن طيف جوزيف ك. بطل «المحاكمة». هنا، في تلك الزواريب الرماديّة، عاش فرانتز كافكا. تحاول العثور على المكان الذي احتضن متجر أهله، في ساحة المدينة القديمة. عن مقرّ «الشركة العامة للتأمين» حيث كان يلتهمه الضجر، ويحلم ببلدان نائية، بنافذة يمكن أن يرى من خلالها «حقول قصب السكّر أو مدافن المسلمين»... عن تلك الشقّة في شارع بولسكا، نورودوفا سابقاً، حيث كتب ــــ حسب الدليل الذي بين يديك ــــ رواية «المعسكر التأديبي»، أو شقّة شارع باريتزكا التي ارتبط فيها بفيليتشي باوير، لفترة وجيزة، وكتب «المطربة جوزيفين أو شعوب الفئران».... عند تقاطع شارعي دوسني وفيزينسكا، تلتقيه أخيراً. ليس تمثال كافكا تماماً. هذه المنحوتة التي تحمل توقيع ياروسلاف رونا (٢٠٠٣) كناية عن عملاق بلا رأس ولا أطراف. في الحقيقة هي بذلة هائلة من البرونز، تمثّل فتحة سترتها ثقباً فاغراً. وعلى كتفي العملاق البلا وجه جلس رجل صغير بالقبّعة الشهيرة، تدلت قدماه حول العنق المستتر، فيما يشير بإبهامه اليمنى إلى وجهة غامضة.
يكتب كافكا في احدى رسائله إلى ميلينا: «مهما يكن من أمر، فإن براغ تحمل البصمات الوراثيّة لكاهنة أسطوريّة، وقد صارت حسب النبوءة «مدينة من ذهب»، «مدينة المئة برج»، وفي وقت لاحق «أم المدائن»... أو بكل بساطة «الأم الصغيرة» (...) براغ لن تعتقنا. تلك الأم الصغيرة عندها مخالب. لن نفلت منها. ينبغي أن نستسلم وإلا...». الآن فقط تفهم ما معنى أن تستسلم لمدينةيروى أن شارل الرابع وقف يوماً إلى شبّاكه في قصر براغ على التلّة، يتأمل بهاء المدينة التي تؤكّد جبروته. وعندما سأل الفلكي الذي في خدمته عن مستقبلها، أجابه الأخير آسفاً أنّه يرى حرائق وطوفانات مقبلة ستقضي عليها... لم يكن من الملك الجرماني، سليل اللوكسمبورغ إلا أن باشر في بناء مدينة أخرى ستفلت من نبوءة الشؤم. فكانت المدينة الجديدة. في الأسفل عند أقدام القصر يمتدّ حيّ «مالا سترانا» الذي يأخذك خارج العالم الحالي: أهلاً بك في البعد الثالث. أنت في متحف حقيقي للهواء الطلق. المدينة السحريّة أفلتت نسبياً من الكوارث والحروب التي دمّرت مدناً عريقة أخرى، فإذا بها اليوم منجماً لتراكم حضاري مذهل. كاتدرائيّة سان غي وحدها، قرب القصر الشهير، بنيت على امتداد خمسة قرون. هذا الصرح يختصر تاريخ أوروبا، وحروب الديانات، وانتصار الكاثوليكيّة على البروتستانت، وحكم الهابسبور...
نحن في تشيكيا. كل الذين التقيناهم يصرّون على استعمال تسمية «الجمهوريّة التشيكيّة». فرنسا أيضاً جمهوريّة، لكننا نقول فرنسا. فهل نحن هنا أمام محاولة لتأكيد حقيقة جديدة، وتثبيتها، وفرض شرعيّتها، بعد عقدين، قريباً، على سقوط جدار برلين؟ بعد انفصالها عن سلوفاكيا انفصمت الجمهوريّة الخصبة التي ولدت في عام ١٩١٨... «طلاق مخمليّ» تذكّرنا جميع المناشير السياحيّة. «لعبة سياسيين يبحثون عن امتيازاتهم» تقول صديقتنا ماريكا، التشيكيّة من أبيها، والسلوفاكيّة من أمّها. وتسأل: «نحن ماذا ربحنا من هذا الانقسام؟».
هناك أيضاً وسط الضباب السلافي، شيء من بقايا الإمبراطوريّة الأوسترو ــــ هنغاريّة... لا يكتمل المشهد هنا إلا بالضباب الآتي ــــ كما الكريستال الشهير ــــ من بوهيميا، وبالسماء القاتمة والمطر. تلك هي براغ، العاصمة التشيكيّة، «مدينة بأصابع من مطر» حسب عنوان ديوان شهير لـ(فيتتسلاف نتزفال) أحد كبار الشعراء التشيك في النصف الأوّل من القرن العشرين. ومؤسس جماعة السرياليين. هنا أنجز موزار «دون جيوفاني»، وأبصرت النور شخصيّة الجندي شفايك (ياروسلاف هازيك). المدارس الفكريّة والجماليّة كلّها تفتّحت في براغ أو تركّزت فيها. حين تراقب البنيان، من كنائس وقصور وبيوت خرافيّة بجمالها، تلاحظ كيف يتعايش الطراز المعماري الذي يعود إلى النهضة، مع النمط الغوطي الذي سبقه، وكيف يأتي الباروك ليضفي على المشهد بعداً احتفاليّاً.
بصمات العصر الحديث مبعثرة أيضاً في المدينة، الآر نوفو يتجانب مع المعمار التكعيبي... مدينة فرانتيتزيك كوبكا هي ثاني مركز للتكعيبيّة بعد باريس. وباختصار لنقل إن براغ هي عاصمة سريّة للحركات الطليعيّة. احتضنت مثلاً أهم حركة تجريبيّة وسرياليّة في السينما. قرب ساحة المدينة القديمة، تقرأ اسم ألفونس موخا بالحروف الكبيرة. تقترب من العمارة الصغيرة بين مقهيين للسيّاح. إنها غاليري «بيليهو جيدنوروتشي»، وفي الدور الثاني، تنتظرك مفاجأة نادرة: أعمال أصليّة لمعلّم الـ«آر نوفو» (الفن الجديد) الذي عاش في باريس العشرينيات، ورسم ملصقات مسرحيات سارة برنار، وإعلانات البسكوت والشوكولاته والبيرة والصابون...
يمكن أيضاً أن تجرّ خطوك بين الحدائق المذهلة، أن تبحث عن بعض ذاكرتك في متاحف براغ... أن تلتقي صديقتك كاتيا كابانوفا بطلة أوبرا شهيرة ليانيتشيك، أن تستحضر «رباعي» تحبّه لدفوراك، أو تستمع إلى مؤلّفات سميتانا التي صارت رمزاً للروح الوطنيّة... أن تقتفي، بين مقاهيها، أثر حكايات كثيرة قرأتها أو حلمت بها. براغ هي أيضاً «مقهى أوروبا» كما كتب أحد المؤرخين. المقاهي انطلقت هنا في القرن الثامن عشر، وبعضها اليوم يعود إلى ما قبل الحرب العالميّة الأولى. هي من صلب تقاليد أوروبا الوسطى، كانت تضاهي مقاهي فيينا في العصر الذهبي رونقاً واستقطاباً للكتاب وكبار الأعيان والتجّار والمشاهير والبوهيميّين طبعاً. كثير من الحركات الأدبيّة والسياسيّة ازدهرت فيها. كافكا وماكس برود كانا من روّاد «كافيه آركو». ريلكه كان يفضّل الـ«ناسيونال»... بعدها بسنوات طويلة، في المكان نفسه، استقبل سيفرت ولم يكن قد فاز بنوبل، قادم جديد اسمه... رومان جاكوبسون.
تمضي إلى «كافيه سلافيا» حيث جلس أبولينير، وبيكاسو و... ماياكوفسكي. هنا كانت تلتقي جماعة «ميثاق ٧٧» التي مثّلت معارضة حقيقية للنظام السابق. في بيروت قالت مَرتا إن فاتسلاف هافيل ما زال يرتاد المكان، بين حين وآخر. تعبر إذاً ضفّة الفولتافا وصولاً إلى المسرح الوطني، تجتاز الشارع بسرعة. في البهو الفسيح تشمّ رائحة الزمن الجميل، وسط عناصر الآر ــــ ديكو التي تسبغ على المكان هالته الخاصة. لن يأتي الكاتب الرئيس إلى الموعد، وستكتفي بارتشاف الـ«سليفوفيتشي» (كحول الخوخ) بجرعات صغيرة، وأنت تشاهد الترام الأحمر وهو يعبر جادة سيربينسكي، أو ترمق النهر من الجهة الأخرى بنظرات صديقة.
لديك هنا متسع من الوقت كي تستعيد أطياف الكتّاب الذين اقترنوا بهذه المدينة. بوهوميل هرابال وياروسلاف سيفرت، ريلكه وقصصه البراغيّة، ياروسلاف هازيك مخترع شفايك، فلاديمير هولان وهيرمن أونغار... وصولاً إلى فاتسلاف هافيل الذي أخذه المسرح إلى السياسة، وكان أوّل رئيس تشيكي بعد «ثورة المخمل». المسرح طالما أدى في تاريخ هذا البلد دوراً محوريّاً. كانت وسيلة لتأكيد اللغة التشيكيّة، والخصوصيّة الوطنيّة، في مواجهة اللغة الألمانيّة ومحاولات التذويب في الإمبراطوريّة. صار خلال السنوات الرماديّة للمرحلة الشيوعيّة أداة مقاومة. فرق الهواة المنتشرة في كل أنحاء الجمهوريّة هي التي أعدّت بهدوء للتغيير، عبر شبكاتها انتقلت الأفكار والمعلومات وأوامر التحرّك. هذا البلد الذي سقط فيه نظام حكم هائل من دون أن تراق نقطة دم، كان المسرح فيه الأداة الأساسيّة لنقل أفكار الثورة.
في طريق العودة بين المدينة القديمة (ستاروميتسكي ناميستي) والمدينة الجديدة (فاتسلافسكي ناميستي)، سيكون لقاء غير متوقّع. على قارعة الرصيف أمام متجر للمجوهرات، جلس الرجل على كرسيّ صغير، يحتضن آلته البدائية الغريبة التي هي بين قيثارة القرون الوسطى والأكورديون و... المطحنة. يبدو متسكعاً أو بوهيميّاً بشعره الطويل الكث، ولحيته البيضاء، وطاقيّته الصوف، وما بقي له من أسنان تظهر عندما يبتسم ابتسامة العارف. يحرّك باليسرى المانيفيل، وينقر باليمنى على المفاتيح. صوته التراجيدي يحمل شحنات ملحميّة قويّة. تسترسل في الاستماع إلى تلك القصائد التي تفهمها جيّداً مع أنّك لم تفقه منها كلمة واحدة. بعد قليل في غرفة الفندق، ستتفحّص الأسطوانة التي اشتريتها من البسطة أمامه. «جيري ويهل يغنّي الشعراء»: إدغار ألن بو، وفرنسوا فيّون، وغيوم أبولينير... ها قد اهتديت إلى صديقك الحقيقي، جيري ويهل، عند نهاية ذلك اليوم الضبابي، أواخر الصيف في براغ.


من يذكر «الشيوعيّة»؟


في ميلنيك، على بعد ساعة من براغ، عند سفح القصر الذي دعانا إليه الأمير جيري لوبكوفيتز لحضور أمسية أوبراليّة ممتعة تحيّة إلى (التيشكيّة) ماريا كالاس، هناك مكان يطلّ على ملتقى النهرين: فولتافا الآتي من براغ حيث عبر ١٧ جسراً، والإلب الآتي من أعماق بوهيميا. وقفنا نسأل ماريكا عن الشيوعيّة. لا أحد يذكر ذلك الماضي هنا، ينتقلون من حكم الهابسبور إلى ثورة المخمل دفعة واحدة... فيما يسكننا حنين غامض إلى النصف قرن الماضي، بحلوه ومرّه، بأوهامه الرائعة وإخفاقاته الفظيعة... وبين الاثنين ذكرياته وحكاياته الكثيرة. «80 في المئة من التشيك ملحدون» تطمئننا ماريكا بشيء من الاعتزاز. تقول إن الوقت لم يأت لجردة حساب. «خسرنا أشياء كثيرة وربحنا أخرى. لم نعد بمنأى عن النمط الاستهلاكي الذي يحجب القيم الإنسانيّة. اليوم عندنا حريّة، صار بوسعنا مثلاً أن نسافر». ثم تستدرك: «لكن ما نفع الحريّة... إذا لم يكن لديك الإمكانات المادية كي تستمتع بها؟».