أواه يا هاني، أواه. أنا؟ أنا؟ أنا جالسٌ هنا في مكاتب نشرة «المستقبل السلفي»؟ أتطلّع حولي غير مصدّق. أنا متربّعٌ تحت صورة عملاقة لرفيق الحريري؟ أأستحقُّ كلّ ذلك؟ أنا الآن أجاورُ مثلي الأعلى في الصحافة الرصينة والمهنيّة؟ فارس خشان على بعد أذرع منّي، فليأتوني بـ«الشَّربات»
أسعد أبو خليل*
هل صحيح أنني أصبحتُ يا هاني متدرِّباً عند الكاتب الشيّق أسعد حيدر؟ أنا أحدّق في بطاقتي الصحافية الجديدة: هي تقول إنني أصبحتُ الأمين العام لشؤون المحليّات والماركسيّات والدموع في نشرة العائلة. أحدّق في البطاقة أكثر، فتدمع عيناي. أحقاً أستحقّ كلّ ذلك؟ ما أنا يا هاني؟ ما أنا ومنْ أنا؟ شرفٌ وأيّ شرف أسبغتموه عليّ، وأنا ما حلمتُ بأن أحظى بهذا الشرف الرفيع. أنا كنت أرقب هاتفي: أحياناً كنتُ أنام وأنا أحدّق في الهاتف. كانت الدقائق «تستحيل إلى عصور» (حسب تعبير خليل حاوي). كنتُ أقول في نفسي: وهل يهاتفني هاني يا تُرى؟ هل قرأ ما كتبتُ له البارحة؟ هل سيعرض عليّ الكتابة في نشرة «المستقبل السلفي»؟ وخيار السلفيّة الوسطيّة هو أملي وأمل كل اليساريّين السابقين، وقد حذّرَنا عميدُنا حازم صاغية من أن السلفيّة القاعديّة ستسود إذا لم نمشِ وراء السلفيّة السعوديّة ـــ الحريريّة الواعدة.
صحيحٌ أنها قد تخيفُ الياس عطا الله، لكن متى كان الأخير يجرؤ على التفوّه بكلمة (أو أقلّ) ضدّ مشيئة آل الحريري؟ كما كان مُسيَّراً بالمشيئة السوفياتية الستالينية ـــ البكداشية لعقود، هو اليوم مُسيّرٌ بالمشيئة الحريرية التي لا تُردّ. حتى عندما أعلن محمد كبّارة أن الشمال كلّه عاصمة للسنّة، صمتَ هذا العلماني ـــ وصمتَ معه مثقفو 14 آذار ـــ وانشغل بالتصريح بضرورة تجريد كل أعداء إسرائيل في المشرق العربي من سلاحهم. وإذا كانت طاعة الياس عطا الله هي المثال، فأنا على هذا الصراط ولن أحيد.
ورنّ الهاتف ذات يوم، ورنّ معه قلبي. عندما هاتفتَني يا هاني أنا لم أسمعْ رنينَ الهاتف. دقاّت قلبي كانت طاغية. الهاتف؟ أنا لم أسمعْ الهاتف. أنا سمعتُ ضربات مدويّة لمَطارق. أنا ظننت أن الأرض قد زُلزلت زلزالها، وأنه سيُكتبُ لي أن ألقى في دار الآخرة من أحبُّ ومن أجلُّ، من أمثال يوحنّا فم... التنك وابن القلاعي وسلف سمير جعجع في قيادة القوّات اللبنانيّة.
أنا سمعتُ وقعَ كسّاراتِ فتوش ترنُّ في أذنيّ. لكني أخطأتُ. إنها دقّاتُ قلبي يا هاني. قل إنها ضربات قلبي تهوي. يا لهول الصدمة. تشوّشت الرؤية أمام ناظريّ. ظننتُ أني وقعتُ في شطحة ابتهاليّة. هل هي الفناء في الفناء، التي يتحدّثُ عنها الصوفيّون؟ ولا أدري يا هاني لماذا كان رنينُ هاتفي يصدحُ بالفالس في ذلك اليوم. رنينٌ وأيُّ رنين. أنا ظننتُ أن أوركسترا من أرمينيا كانت تعزف تحت شباكي عندما هاتفتَني. هل هذا صوت أسمهان عاد من جديد ليناديني؟ لا، الرنينُ رنينُك يا هاني. (وهل أخبرتُك أنني قد أكملت قراءة كتاب لهنري كوربان؟).
وأنا يا هاني لم أقل لك ذلك بعد، لكنني أقف متأهباً عندما تهاتفُني، كما أقفُ عندما يطلب مني مثلي ومثالي، فارس خشان، أمراً ما أو موقفاً ما. أنا أقف متأهباً متحفّزاً. آه يا هاني. لو تراني في مكاتب جريدة «المستقبل السلفي». آه لو تراني وأنا أجولُ بين المكاتب طرِباً مختالاً. أحياناً يأتي عاملُ التنظيفات (وأنا مثلكم أحتقرُ العمّال والعاملات يا هاني وأبصقُ على الخادماتِ السريلانكيّات عندما ألقاهنّ في الطريق، كما ألاحقُ بائعي الكعك الفقراء بالسكاكين) في الصباح الباكر ليجدَني وأنا أناجي صورَ الشيخ رفيق الحريري. يسألُني ما الخطب، فأبكي و«أَعَيَّطْ» كما يقولون في العاميّة المصريّة. أحياناً، أجلسُ على كرسي وأحدّق في أسعد حيدر وهو يكتبُ مقالاته. أحياناً، أتساءل: هل كتبَ يحيى جابر ملحمةَ الدموع عن رفيق الحريري على هذا الكرسي ومن وراء هذا المكتب؟ أحياناً، أسألُهم بشغف: أين يقفُ فارس خشان ـــ دامَ مقامُه بينكم ـــ وأين يجلسُ؟ أخبِروني ــ دامَ فضلُكم.
أريد أن أعرف. وعمر حرقوص، هذا اليساري الديموقراطي: كم تشوّقتُ للقياه. أودّ أن أستعلمَ منه عن طبيعة ومتطلّبات التكيّف الإيديولوجي والتلوّن الانتهازي. وقد اعتذرتُ من حرقوص عن نقد كنتُ قد كتبته ضد حركة اليسار الحريري الديموقراطي. أردتُ أن أتعلّم من حرقوص ادعاءَ اليساريّة أثناء خدمة اليمينيّة. عمر حرقوص علّمَني، وما أنا إلا تلميذٌ من مدرسة حريريّة عارمة. (هل أخبرتكَ أنني أكملتُ قراءة كتاب لهنري كوربان؟).
وأنا أعترفُ بأنني أثقلتُ عليهم في مكاتب «المستقبل السلفي» عندما دخلتُ للمرّة الأولى. لم أتوقّفْ عن السؤال والاستفسار. أين ينفضُ رضوان السيّد سيجارَه الفخم، سألتُهم. وأين يكتبُ فيصل سلمان مقالاته التي توهمُه بأنه ظريف؟ وأين كتبَ بول شاوول مقالة «برافو سنيورة»؟ وأين كتب يقظان التقي نقدَه لسمير عطا الله عندما عيَّره بأنه كاتب بلاط. وكتب الزميل يقظان مقالتَه تلك في بلاطكم يا هاني.

نحن المُتقلبّين في العقائد والمبادئ




وأين يكتب سعد الدين خالد مقالاته تلك التي لا يقرؤها إلاه؟ وأين كتب نصير الأسعد تلك المقالات المُستقاة من حوارات فكريّة كان يجريها مع رستم غزالة؟ والأهم، أين كتبَ فارس خشّان تلك المقالة التي نظّرَ فيها لحكمة بشار الأسد وقال إنّ خطبَه كافية بحدّ ذاتها لتحدثَ «كوّة» في جدار العدوّ الإسرائيلي، وكان هذا عندما كنّا نعتبر إسرائيل عدوّاً؟ (هل أخبرتكَ أنني أكملتُ قراءة كتاب لهنري كوربان؟)
وأنا، ومن أنا. أنا الآن أُدعى لإلقاء العظات والخطب في أمسيات تيار «المستقبل السلفي». شرفٌ وأي شرف حظيتُ به، يا هاني. أنا لا أستحقُّ كل ذلك. كنت آمل أن أرافق جورج بكاسيني أو فارس خشان في جولاتهما، أو أن آتي بكوبٍ من الماء إذا ما عطش أسعد حيدر في إطلالة تلفزيونيّة. لكن أن أتلقّى أنا الدعوة منكَ؟ قلبي ما عاد يتحمّل يا هاني. قلبي كادَ أن ينفجر وأن يتشظّى. ركبتاي تتداعيان تحت وطأة المسؤولية الثقيلة، يا هاني. أنا أخطبُ محاطاً بصور الشيخ سعد وذلك الذي «يحسب أن مالَه أخلده»؟ حدقتُ في جمهور تيار «المستقبل السلفي» في تلك الأمسية وحاولتُ أن أحبسَ الدمعَ وأن أرطّبَ الحلقَ. المسؤوليات من قريطم جسامٌ، لكن العواطف تغلبُ أحياناً، اعذروني. أنا أخطبُ في أمسيات السلفيّة الوسطيّة مثلي مثل منظّري التيّار، على طراز محمد سلام وجورج بكاسيني وعقاب صقر. (هل أخبرتكَ أنني أكملتُ قراءة كتاب لهنري كوربان؟).
وأنا أبشرّك بأن عمليّة تغييري اكتملت: هي مثل تحوّل فارس خشان، الذي كان يكتبُ مقالات المديح دفاعاً عن إميل لحود والنظام السوري، ليعود ليحوّل نفسه إلى معارض عنيد لحقبة سيطرة النظام السوري في لبنان. أنا اليوم أنبذُ كل التراث اليساري، وأخجلُ من أية إشارة إلى اليسار في مقالاتٍ سابقة لي. اليسارُ؟ ما هو اليسار؟ أنا أفتيتُ بأن الحريرية أنهت بالضربة القاضية اليساريّة واليمينيّة على حد سواء. هي فوق الصراعات، وفوق التناقضات. أي يسار، وأي همّ على القلب. ماركس؟ من هو ذا؟ أنا أعرفُ الإخوة ماركس في أفلامهم المضحكة؟ ماركس؟ أنا أنكرُه قبل صياح الديك وبعده؟ لينين؟ من هو لينين؟ في التنظير والتنظيم أنا لا أعترفُ إلا بسليم دياب ومصطفى علوش وفريد مكاري. رأس المال؟ أنا لا أقرأه، بل أعبدُه وأرصدُه وأحترمُه، وخصوصاً في كنزه في قريطم والرياض. تروتستكي؟ حسناً فعل به ستالين ما فعل، لكنّه تأخّر. ولماذا لم يستعنْ القاتل بآلة حادّة غيرها؟ فرج الله الحلو؟ لا، أنا أفضل شارل الحلو. فؤاد الشمالي؟ لا، فريد حبيب هو من أحبّ ومن أمدح. (هل أخبرتكَ أنني أكملتُ قراءة كتاب لهنري كوربان؟).
في المفكّرين، دعني أوضح. لدي عدد من المفكّرين الذين أجلّ وأحترم. وأنا لا أفهم هوى بعض المثقفين بفوكو وماركس وبتلر وولارستين وأمين. أيُنظَّر وسمير عطا الله ومحمد سلام ونادر الحريري في المدينة؟ أنا أرى أن تنظيرات مصطفى علّوش وفريد حبيب هي من أعمق ما قرأتُ في التراث الفلسفي. ثم لماذا لا تُجمع خطب أنطوان زهرا وتصريحاته في كتب على نسق المجموعة الكاملة لمؤلفات ماركس ولينين وماو؟
وأنا لا أريد أن أثقلَ عليك. التفاتة أو إيماءة منك تكفي لتشرحَ صدري وتضعَ عني وزري. لديك من المشاغل ما لديك، وأنا أفهم ألا يكون للشيخ سعد متسع من الوقت ليلتقي بي. وعدَدُنا ـــ نحن المُتقلبّين المتلوّنين الذين يغيّرون العقائد والمبادئ مثلما تغيّرُ جواربَك الثمينة صباحاً ـــ كبير، وإن كان فعلُنا قليلاً قليلاً. لو تسمح لي فقط بالسلام والمعايدة، وأن أجلسَ مع الحاشية مع كثيرين غيري، فقط أن أكون حاضراً إذا ما مرّ الشيخ سعد محيياً: «مرحبا شباب». أنا أدرّبُ نفسي على تلك اللحظة. أقف أمام المرآة ـــ كما كان هتلر يفعل ـــ وألقي الكلام تمرّناً، أحياناً، وأقعُ مغشياً علي وأنا أتخيلُ نفسي في اللحظة.
وعندما أرى بأم العين فارس خشان يسير في مكاتب النشرة تدورُ الأرض بي. يصيبُني دوار. وعندما يحدث ذلك أهيمُ على وجهي في محلّة الزيدانيّة. وأنا ـــ وإن كان لا يحقّ لي الاعتراض ـــ لم أتفقْ معكم عندما قرّرتم نزع صور من أحب من فريق سلالة «من يحسب أن ماله أخلده»؟ لماذا يا هاني؟ صورٌ لنادر الحريري على أقل تقدير. وعندما أهيمُ على وجهي في الزيدانيّة، أجدُني أحملُ صورةً كبيرةً لنادر الحريري. أحتضنُها وأدورُ في رقصة زار. وما شأنُ العائلة التي لا تنجبُ إلا أفذاذاً؟ مرّةً رأيتُ بقايا من سيجار فاخر. أُصبتُ بالقشعريرة. جمعتُ مَنْ كان حولي من اليساريّين السابقين وبدأنا في التخمين؟ لمن يا ترى هذا السيجار؟ لأي من المُبَجّلين هو؟ وعندما يصعبُ الأمر علي وتتشوّشُ الرؤية أمام ناظريّ، أجولُ في الزيدانية وأهيمُ على وجهي.
أرأيتَني في معراب، يا هاني. أواه. لفخري ولفخرِ من سبقني من اليساريّين السابقين من زمن قدري قلعجي وجلال كشك، ولجتُ في حاشية سمير جعجع. رأيتُ سولانج الجميل. وإذا ما أعدّت أطعمة لقادة من إسرائيل فسأساعدُها. سأخففُ من متاعبها: سألفُّ لها الملفوف وورق العنب. وإذا استساغَ قائدٌ إسرائيليّ طعمَ الكبّة، فسأدقُّها دقّاً بأناملي. وقد ساهمتُ في إعداد بيان اللقاء الطائفي في معراب، يا هاني. كلماتي أنا وردتْ على شفاه سمير جعجع. وعندما يعود أنطوان لحد إلى لبنان (وأنتم وتيار ميشال عون ورئيس الجمهوريّة تسعون من أجل عودة مجرمي جيش لحد وعوائلهم مُعزَّزين مُكرَّمين إلى لبنان)، أريدُ أن أكتبَ كلاماً له.
أستطيعُ أن أركّبَ فصوصاً في التطبيع مع إسرائيل. من يدري؟ قد يأتي يوم تُشرّفُني فيه بكتابات بيانات التحريض الطائفي والمذهبي في الليالي الرمضانية في قريطم؟ هل ستطلبُ مني يوماً أن أحرّكَ بسيط الكلام للشيخ سعد؟ وأنا أتخصّص في فريق قريطم الإعلامي. يطلبُ مني العظيم خشان أن أتخصّص في أمريْن: التهجم على عون وعلى حزب الله وعلى سليمان فرنجيّة، وقد عاهدتُ نفسي على التمنّع عن نقدهم إذا تحوّلَ واحدُهم أو الاثنان أو الثلاثة نحو التطبيع الساداتي. وأنا مطواع. عندما قرّرتُم مهادنة حزب الله، هادنتُ وخففتُ اللهجة بأمر منكم، وعندما قررتُم التصعيد، صعّدتُ وعنّفتُ اللهجة. لبيكَ يا هاني. وإن غيّرتم أعداءكم، أتغيّرُ معكم، وإن اتخذتم حلفاء جدداً، واليتُهم. الرأيُ لِمَن يطيعُ في فريقنا، أي الرأيُ لمن لا رأيَ له. العزّةُ له، والمنّ والسلوى.
ولا أخفي عنك بعض القلق الذي يساورني أحياناً يا هاني. يعترضُ البعضُ علي ويشكو. هناك من يقول: ما الخطب، يا «واحداً من فريق قريطم». ينادونني بذلك تحبّباً، وهذا اللقبُ عزيزٌ على قلبي وكبدي. يقولون: لماذا تغيّرتَ؟ التغيير لم يكنْ في مصلحتك أبداً. التلوّن والانتهازيّة قاتلان للمواهب ودافنا الإبداع. أسلوبُك تغيّر، يقولون، وإن مقالاتي تدفعُ القراءَ إلى نوم مُبكر. ما عدنا نميّزُ بينك وبين أسعد حيدر ونصير الأسعد. هذا ما أصبو إليه، أؤكد لهم. أنا أسعى لرضى قريطم. كل ما عدا ذلك هباء. (هل أخبرتكَ أنني أكملتُ قراءة كتاب لهنري كوربان؟).
وأنا أحرصُ على الانتظار خارج جامع علي بن أبي طالب في الطريق الجديدة كل يوم جمعة. أبدأُ الانتظار في اللحظة التي أستطيعُ أن أتبيّنَ فيها الخيطَ الأبيض من الخيط الأسود، حتى الظهيرة. أقولُ، لعلّ رجلَ التُّقى والورَع الذي أُصيبَ هو أيضاً بنوبة الدين لغايات التحريض المذهبي يمرّ اليوم أيضاً على الجامع ليدّعي تعبّداً.
أرأيتني يا هاني في الحشد خارج الجامع ذات يوم؟ أنا كنتُ واحداً من الذين هتفوا أن دمَ السنّة يغلي غلياناً. وأنا عندما أذهبُ إلى الضريح، لا أقرأُ الفاتحة بقدر ما أقرأ فعلَ الندامة. أنا أعتذرُ عن كل كلمة قلتُها وإن نقداً ملطفاً إذا ما تناقضت مع توجهاتكم، وأعتذرُ عن كل كلمة مديح وتملّق لم أقلْها من قبل.
وقد أشار عليّ معلمي (فارش خشان) أن أغرقَ في التخصّص. فأنا لا أكتبُ إلا بأمر وإن كنت أريدُ أن أذكّر قرّائي بأنني قرأتُ كتاباً لهنري كوربان. يُطلبُ مني أن أتخصّصَ في دعاوى التحريض المذهبي والطائفي، فألبّي. وأنا غارقٌ في الوهابيّة حتى الأذنيْن. وقد ذكّرنا حازم صاغية بأن دعم الدولة هو ضرورة ملحّة من أجل التنوير. لهذا، فإن صاغية يؤيدُ دولة الوهابيّة... من أجل التنوير. ومن ينوّرُ أكثرَ من بن باز، يا هاني؟ والشيخ الجوزو ملؤه النور والتنوّر. والظلاميّة تنوّرُ إذا أتتنا من لدن قريطم.
أتقرأ ما أكتب في النشرة العائليّة يا هاني؟ هناك من يسخرُ مني. هناك من يقول: كيف تتحدث عن حقوق الأقليات في إيران وأنت داعية وهّابي وحريري؟ هناك من يسخرُ من إشاراتي إلى التنوير والديموقراطية لأنني من أنصار سمير جعجع وخالد الضاهر. وما الضيرُ في ذلك؟ إن داعي الإسلام الشهال هو تنويري، لو شئتم أنتم ذلك. وأنا حفظتُ عن ظهر قلب زجلية ابن القلاعي في مديحة جبل لبنان، وتنتابُني قشعريرة وأنا أقرأ كلام الكراهية الذي يذكّرني بكلام يوحنا فم... التنك. وأنا أناصرُ التحالف التاريخي بين الأكليروس الماروني والغرب، وقد كتبتُ ذلك في جريدة «المستقبل السلفي».
كان علي أن أضيف أنني عنيتُ بالغرب غربَ الحروب الصليبيّة والقرون الوسطى لا غرب التنوير والثورة الفرنسيّة، لأن الأكليروس كان معادياً لغرب فولتير وروسو وروبسبير.
وأنا يا هاني، تسلّلتُ إلى جامع محمد الأمين. أملتُ أن أرى الإمام سعد وهو يؤمّ المصلّين. وسرّني أنّ مملكة التنوير الوهابية أرسلت وزيرَ أوقافها. أنا وحدي لاحظتُ أن الوزير هو من آل الشيخ، أي إنه من عائلة محمد بن عبد الوهاب، مؤسس العقيدة الوهابية، التي نهتدي بضوئها ووهجها. لكنني لم أدخلْ. حدقتُ في اللوحة التي تتصدّر المدخل. لاحظتُ أن اسميْ رفيق وسعد الحريري كُتبا بخطٍ أكبر من كلمة «محمد» نفسها على اللوحة، لكن الأمر لم يزعجْني. ودلفتُ إلى ركن الأحذية. غابةٌ من النعال، يا هاني. ووجدتني أغرقُ في بحر من النعال. وجدتني أشتمُّ النعال، واحداً واحداً. تلك للجوزو وأخرى لعلّوش، لعلّني أعثرُ على نعليْ الشيخ سعد. وعندما وجدتُها، وعندما تبيّنتُها من بين كل الأحذية، بكيتُ يا هاني. لم أتوقفْ عن النحيب وأنا أحتضن خفَّيْ سعد. كدت أن أهيمَ على وجهي في الزيدانيّة لو لم ينهرْني حرّاس الهيكل. عدتُ على أعقابي، أبكي بصمت. لكنني كنتُ مذهولاً. صرتُ أتبيّنُ ملامح عائلة الحريري في المارّة. هذا أحمد الحريري، وذاك نادر الحريري وذلك شفيق الحريري. الأرض تدور. وقعت مغشياً، وما أفقت إلا واللعاب يسيل من حلقي وأنا أهذي بأسماء العائلة الحاكمة.
وكل صباح يا هاني، أهيمُ وأهيمُ في الزيدانيّة. أحياناً في الصباح الباكر لا يراني أحد. أجدني أهتف بملء جوارحي بحياة الشيخ سعد والشيخ نادر. ولماذا لا أتكرّس لخدمة الشيخ نادر الحريري لأن للشيخ سعد فريقاً عرمرمياً على ما أسمع. ومع الزمن، يمكن أن أحلم بأن أترقّى لخدمة الشيخ سعد.
آه يا هاني، لتلك اللحظة. أحلم بأن تهاتفني لتشاطرني النبأ السعيد. اعذرني يا هاني لأنني سأقع مغشيّاً عليّ. أنا أعلم ذلك وأقول ذلك منذ الآن. وأنا أعتبر أن إلقاء سمير جعجع بعضاً من كلماتي تدريب لما أستطيع أن أفعل في المستقبل في تيّار المستقبل السلفي. وأنا أستطيع أن أغنّي يا هاني.
يا صانع القرار على ما سمّاك وليد جنبلاط في حديثه مع تلك الجريدة الحقيرة التي تتهجّم على العظيم ابن باز. أستطيع أن أغنّي للشيخ سعد للترويح عن نفسه. ويسرّني أن أُعلمك يا شيخ هاني بأنني تدرّبتُ على رقصة العرضة لتحضير نفسي لمهرجان الجنادريّة حيث يحتشد المثقفون والكتّاب العرب، من أهل التكسّب والنفاق (المُحترم). أي إنني الآن، أصبحتُ مثل سعاد حسني في فيلم «خلي بالك من زوزو»: سأغنّي وأرقص لإسعاد الشيخ سعد. لعيونك يا هاني.
لكن يا هاني. إنّ خوفاً يعتريني ويبقيني سهراناً على ضوء القمر. لا أدري ماذا حلّ بي. لماذا عندما نلتحق بفريق قريطم المعظّم نصبح متماثلين ونفقد فرديّتَنا وتميّزَنا؟
أنا يا هاني بتّ أكتبُ مثل أسعد حيدر، وللأخير أسلوب يذكّر بأسلوب دليل الهاتف الشيّق. هل صحيح ما يقوله البعض يا هاني أن الانتهازيّة قاتلة للمواهب والإبداع، حتى لا نتحدّث عن الكرامات؟ وهم يتحدّثون عن طارق متري كمثال غير مُشجّع وغير مُشرِّف إذ إنه أُصيبَ بالتكلّس الذهني والترهّل الثقافي بعدما التحق بفريق قريطم.
وأنا لا أريد أن أثقلَ عليك، لكن هلا أوصلتَني بخالد بن سلطان؟ أودّ أن أقولَ له بانحناء: طال عمرك، يا سموّ الأمير. أنت أملي، يا راعي التنوير والليبراليّة.
* أستاذ العلوم السياسيّة
في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)