نسيم الخوري *ينتظر هذا المقال على طاولتي منذ أكثر من نصف سنة. تركت الجريدة ولم أتركه. كلّ صباح يسترق النظر إليّ من بين الأوراق والملفات المبعثرة. هو ليس بحاجة إلى رشوتي لدفعه إلى النشر. قد يكون أحدهم مثل حجر يدوسه الزعيم كلما مرّ أمام داره، وفي غفلةٍ من الزمن يستحليه، فيأمر برفعه ووضعه في الجدار. يصبح الحجر سياسياً جاهزاً للصقل. عجباً، أُنسيَ معالي الوزير أن المناصب كلّها سلطان مؤقت إلى زوال، وخصوصاً في زمن تبدو فيها الدول والشركات العالمية ورؤوس الأموال تطير مثل العصافير المجنونة في زمن العواصف الكبرى والانهيارات، فلا تعرف أين تحطّ، بينما الصحافة سلطان قائم إلى الأبد تزهر كما الياسمينة تحت الضوء، وكما الحبر في جرح سمكة لم تخرج من أمّها بعد.
تناول الأقلام لا ينتهي في مسيرة الكتابة. الكتابة باقية ما بقيت الأرض. وتكفينا الإشارة إلى أن الحضارة الكتابية والنصوص والأسطر مستقاة أساساً من الحضارة الزراعية، وعصور الفلاحة. نعم. القلم مثل المحراث، يطمح بين أنامل الكتّاب إلى رسم السطور المستقيمة تماماً، كما يطمح الفلاحون إلى رسم الأثلام المستقيمة عند فلاحة الأرض. وبين الخط المستقيم والخط المنحني، تكمن أدبيات الفرق بين الصلاح والفساد في حكم البلاد والعباد.
في ضوء منظومة الحبر الجالس، كيف يجرؤ الوزير شارلمان الثاني على الشاشة المريمية التي اتهمته برزقه المتدفق عليه من صرف النفوذ والتلذذ بالفساد، فقادها في سرير الوضع إلى عدله الذي يعتبره عقاره الخاص، وبين يديها ياسمينة الأيام الأربعة فأغضب ياسمين الأرض والزهر عليه؟
كيف لهذا الوزير المعروك في حبر معاجن الوكالة الوطنية للإعلام، وتلفزيون لبنان، والعبسة الشهابية الملفوفة بهدأة لبنان تخرج من المؤسسة الخضراء، كما في الفرنكوفونية التي سلّمه إيّاها صديقه الحميم إميل لحود مثل خاتم سليمان، فخلعه ببساطة من يخلع ضرساً من تجويفته.
قال الإمام علي: «خافوا صفر الوجوه من دون علّة»، ولا أدري إن قال أيضاً في أصحاب الشفاه الرقيقة الممطوطة والمزمومة التي تذكرك ببسمة الجوكوند التي أضاعت كلّ الجهود الفرويدية في قراءة الشخصية عبر الملامح.
ملامحه تصعب على التفسير في قساوتها فعلاً. لا يستأهل سياسي واحد نعمة الحبر وبركته، لكنه يمرّ هنا نموذجاً في سلوك سياسيينا أو معظمهم لعالم من المشتبه والملتبس. نقول: «معظمهم»، خوفاً من التعميم الذي قد يقودني إلى مصادرة سيارتي/ المكواة التي لا تشيل أكثر من صاحبها من مكانه، لعتقها وصغرها بالطبع.
كل شيءً في السياسة مقبول في لبنان أو قابل للنسيان لشدة ما ابتلينا بأحداث وموبقات، لا يلحّق الحبر عليها ولا العقل ولا العدل. قد يكون الوزير السابق من الذين فتنوا بمنصب من طريق وزارة العدل لا يحسده أحد عليه من أهل الحبر، وعندما تعثر حظه، راح يرغي ويزبد ويزم شفتيه نحو بعبدا لكنه أخفق!
لقد سقط مرشح الجمهورية في كهرباء الشاشة ويتابع، وسقط معظم الناظرين أو الناطرين إلى فوق، قبله في العتمة. وبات «فخامة» المنتهي أمام زهرة الياسمين بدلاً من فخامة الرئيس. بات صاحب الفخامة بين قوسين، وهذه حال كلّ من أصابه غرور السلطة والسلطان. قال لي إثيوبي صديق اعتدت أن أغسل سيارتي لديه، وأسامره وأكرمه أكثر مما أكرم وزيراً أو مسؤولاً. قال: إن قلوب الكثير من اللبنانيين ملآنة بالغرور والتعالي والتفوق.
ولكي نؤانس معاليه قلقه عند عبوره للصحراء بالمعنى السياسي، وقد بات قابعاً في نسيانه يتلذذ مثل كثر غيره بصفة وزير سابق ونائب سابق، نقدّم تلك النصوص الفرنكوفونية الجدّية التي تقول باستحالة أن يكون هناك كاتب أو صحافي سابق:
عندما نذكر السلطة الرابعة، يفترض أن نترحّم على مطلق التسمية، إدمون بورك (1729ـــــ1797)، الكاتب والخطيب البريطاني، قائد النضال ضدّ فرنسا نابليون. وكان عدواً شرساً للثورة الفرنسية، كما لحكّام بريطانيا في الهند الذين غرقوا حتى أذنيهم في الفساد والرشوة والسمسرات وصرف النفوذ. وكان لمقالاته الصحافية في نقد السياسيين الوقع الكبير لدى القرّاء، ما دفعه الى إطلاق «السلطة الرابعة» كصفة للصحافة، في كتابه الذي جمع فيه مقالاته ونشره بعنوان: «تأملات في الثورة في فرنسا». وكان نابوليون يجنّ لأي نقد تثيره الصحافة ضدّه. لقد طلب مثلاً إلى جوزف فوشيه وزير البوليس الإداري في فرنسا قائلاً: «اقمع الصحافيين أكثر، واجعلهم ينشرون مقالات جيّدة، وإلاّ فإنني سأوقف الصحف كلّها... لقد انتهى زمن الثورة، ولم يبقَ في فرنسا سوى حزب واحد. ولا شيء يؤلمني ويثير خوفي، أكثر ممّا تنشره الصحف، فتعوق فيه مصالحنا».
وليس أبلغ مما نقله مترنيخ عن نابوليون، وغدا مضرب الأمثال في السلطات التي يتمتّع بها الصحافيون. كان مترنيخ سفيراً للنمسا في فرنسا، وقرّبه منه نابوليون، وكلّفه التفاوض بشأن زواجه من ماري لويز: «إنّ مقالة صحافية تساوي جيشاً من 300 ألف رجل. هؤلاء لا يراقبون الداخل، ولا يخيفون الخارج أفضل من دزّينتين من مقالات الصحافيين».
هكذا كان نابوليون بعتزّ بصحيفته Le Monitor على أنّها «روح الحكومة، وسلطتها وقوّتها، ووسيلتها الى الرأي العام في الداخل والخارج... إنّها أمر اليوم بالنسبة إلى انتصار الحكومة».
وعندما نذكر سلطات الشاشة، يفترض أن نترحّم على المتنبي بهذه المسألة، شاتوبريان ( 1768ـــــ1848) الكاتب الفرنسي الذي هاجر إلى أميركا، وعاد مع قيام الثورة الفرنسية وحظي بعطف خاص من نابوليون الذي جعله سفيره في بريطانيا فوزيراً للخارجية. وكلّ ذلك لم يمنعه من المناهضة القوية لحكومات شارل العاشر.
جاء في رسالته إلى ملك فرنسا العاشر يحضّه فيها على الإقرار بسلطات الصحافة: «كانت الصحافة عنصراً مجهولاً في الماضي، وسلطة فائقة أدخلت الآن في العالم. لأنّها الكلام في حلّته السريعة. إنها الكهرباء الاجتماعية، فهل يمكنك تجاهل وجودها؟ كلّما زعمت أنّك ملمّ بها، وتفهمها، ازدادت حدّة انفجارها، وأضحت أكثر عنفاً. عليك أن تتصالح معها، كما فعلت في الماضي مع آلات البخار. يجب عليك التمرّس بها اتّقاءً لمخاطرها. هكذا تنحسر هذه السلطة شيئاً فشيئاً فتسقط وتتلاشى في الاستعمال اليومي، فتدجنها أو تعيد بناء عاداتك وقوانينك وفقاً لمبادئها التي ستحرّك البشرية من الآن وصاعداً».
لقد بلغ شاتوبريان حدّ التنبؤ، وهو يصف الصحافة المكتوبة بالكهرباء، وهو لم يكن يتصوّر بأنّه يؤسس لكلام يربط فيه الصحافة المكتوبة في تطورها بالشاشة، أي بنهر الكلام المتدفق أبداً، حيث تصبح الصحافة السلطة الأولى أو سلطة الشاشة المطلقة تتبعها بانقياد السلطات التنفيذية الإجرائية، أي الحكومات ورؤساء الجمهوريات والحالمين بها، كما تتبعها والمجالس التمثيلية، وأحياناً تصبح الشاشة هي البرلمان، كما تتبعها السلطات القضائية، ولو كانت في قرص الشمس من حيث رسوليتها.
ليس هذا النص تصفية حساب شخصي. أبداً. بل وطني وأخلاقي وعبرة للطامحين إلى البرلمان ونحن على أعتاب انتخابات وجهود برلمانية. إنه نص لم يحظَ بلذة النشر. كان يكفي لأن أدير ظهري للجريدة التي كنت أنشر فيها مقالي الأسبوعي. فأنت تستطيع أن تزيل رأس كاتب، ولا تستطيع أن تزيل فاصلةً من نصّه في حق الناس وحقوقهم.
أنت تبصق منبراً من بين أسنانك يخرج مثل بذرة من الزعرور، ويموت الناس المسؤولون، لكن الحبر المصفّى المنخول لا يموت.
* أستاذ الإعلام في الجامعة اللبنانية