فايز فارسعام 1948، ربحت العصابات الصهيونية كل معاركها مدعومةً من سلطات الانتداب البريطاني على فلسطين، تقابلها جيوش عربية ناشئة ومقاومة شعبية مبعثرة. وخسر الفلسطينيون نصف الوطن. عام 1956 أخفق الحلف الثلاثي: الإنكليزي ــ الفرنسي ــ الإسرائيلي في تسجيل انتصار حقيقي في معركة القناة «قناة السويس»، لأن روسيا السوفياتية لم تسمح لهذا الحلف «الإمبريالي» من تحقيق أهدافه، وذلك بالتوافق مع إدارة الولايات المتحدة التي لم تكن بعد قد سقطت في أحضان المشروع الصهيوني.
وعام 1967، خرجت فرنسا وبريطانيا من المعادلة ليحلّ محلّهما الثنائي الأميركي ــ السوفياتي، وحقق الجيش الإسرائيلي أكبر انتصاراته وأهمها على دول الجوار، فانهارت معنويات الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج. وكان متوقعاً أن يؤدي كل ذلك بالأنظمة العربية العاجزة إلى القبول حتى لا نقول الاعتراف نهائياً بدولة إسرائيل.
لكن غطرسة زعماء الصهيونية وعقدة التفوّق التي حطّت على رؤوس حكّام إسرائيل فوّتت عليهم فرصة لن تتكرر أبداً، ما دفعهم إلى تقبّل نتائج «حرب العبور» مطلع تشرين الأول 1973 وامتصاص الصدمة والدخول في مخططات الإدارة الأميركية التي سعت إلى تقريب المصالح بين حكومة إسرائيل وجيرانها.
لكن واشنطن وجدت أن عليها التخلّص من كل تلك الفصائل و«الجبهات» التي انطلقت وتأسست منذ حرب الـ67 واستمرّت بشكل جذري رافضة نتائج حرب الـ73 وكل محاولات الراعي الأميركي لفرض الحلول السلمية
الناقصة.
وحده نظام الرئيس أنور السادات تجاهل هذا الواقع ودفع الثمن الغالي. وتحوّل لبنان إلى ساحة مواجهة إقليميّة ودولية وصراع شرس بين مؤيّد لمشروع الاعتراف بدولة إسرائيل وتوطين الفلسطينيين المقيمين في دول الجوار وطيّ صفحة الماضي من جهة، أو متابعة الكفاح المسلح حتى «تحرير» كامل التراب الفلسطيني.
وأضيف إلى الحروب اللبنانية ملحق حمل عنواناً صريحاً «الحرب على العراق» بهدف توسيع مساحة المواجهة لتشمل جميع دول المشرق وضرب ما بقي من وحدة عربية.
لكن قادة الأحزاب الثورية العربية في لبنان وفلسطين، وفي مقدمها حزب الله، أدركوا أن الشعوب العربية ما زالت تزخر بالطاقات والقدرات وأنها لم تقدم بعد أفضل ما لديها، فتمكّنوا من لمّ الشمل وتصويب السلاح نحو العدو الحقيقي أي إسرائيل، ومن دون التلهي بمواجهة مع الأنظمة العربية كما كان يحصل في الماضي، ما دفع ببعض تلك الأنظمة العربية وغير العربية إلى مساندتهم تدريجاً.
في الوقت ذاته، أثبتت الوقائع والأحداث أن طاقات وقدرات يهود دولة إسرائيل قد استُنزفت خلال قرن تقريباً، وهي التي كانت تتغذّى من مشاعر الخوف العميق والقلق المزمن والكم الهائل من الكره والاعتماد الكلّي على الذات، في صراعهم من أجل البقاء. بينما قادة الأنظمة العربية وشعوبها لم يعوا فداحة الخطر المحدق بهم إلا بعد فوات الأوان، أي بعد ولادة دولة إسرائيل وتمكّنها من تحقيق أقلّه السيطرة العسكرية على مجمل منطقة الشرق الأوسط.
إذاً، استهلكت دولة إسرائيل تقريباً كل قدرات «شعبها» وطاقاته، بينما الشعوب العربية المشرقية ما زالت تتمتع بنسبة عالية من القدرة على الصمود والتضحية بالغالي قبل الرخيص. وإذا ببعض الانتصارات العربية يتحوّل إلى انتصار كبير وبعض الانكسارات الإسرائيلية يتحوّل إلى انكسار كبير.
لذا، تستعيد حكومة إسرائيل اليوم طروحات السبعينيات التي رفضتها في حينه بسبب غطرستها وعجرفتها أي القبول بـ«سلام اللاحرب» وبخاصة بعد الإخفاقات المتتالية للجيوش الأميركية في هذا «الشرق الأوسط الأكبر» والتي بيّنت للحكومات الأميركيّة والأوروبيّة، وبعد أربعين سنة مضت، أن الشعوب الحيّة هي صاحبة الحق العادل والقرار النافذ... لا الحكومات الهشّة وإن كانت عربيّة بارعة في خطاباتها وأدائها في لعبة التخفّي والمراوغة.
هو حلّ مؤقت يسمح للبعض بالتقاط الأنفاس ومخرج لائق للذين تورطوا أو وُرطوا في إدارة اللعبة والمشاركة فيها.