نوال العلي
بعد عامين من اندلاع الانتفاضة الأولى، أوكلت منظمة التحرير الفلسطينية إلى خبير أميركي في صناعة الصورة السياسية، وباقتراح من وزير الخارجية الأميركي آنذاك جيمس بيكر، تدريبها على الحديث والابتسام والحركة أمام الكاميرا.
اقتربت اتفاقية «مدريد» من التحقق، وبدا واضحاً أنّ دور حنان عشراوي كوجه إعلامي للسلطة الفلسطينية آخذ في الرسوخ شيئاً فشيئاً، وخصوصاً بعد ظهورها في مناظرة غير متوقعة مع أميركيين في برنامج ABC's nightline show سنة 1988. إذ أصبحت منذ ذلك الوقت الوجه الفلسطيني المفضل لدى الإعلام الأميركي. وجودها في موقع القرار، كامرأة ومحاورة ماهرة ومثقفة و... مسيحية (حسب المعايير المهيمنة)، لبّى أيضاً حاجة ماسّة إلى تحسين صورة المنظمة.
اليوم ما زالت تحرص عشراوي على تلبية الدعوة إلى لقاءات الإعلام. لديها دائماً ما تود إيصاله ومشاطرته مع الجميع. تمشي مسرعة بين الردهات، قبل أن يتبعها كثيرون، لتجلس في حجرة بعيدة وتتحدث إلينا من دون ضجيج.
تفكر وأنت تنظر إليها في مؤتمر «مستقبل المرأة العربية» الذي عُقد أخيراً في بيروت، أنك أمام ظاهرة يندر حدوثها بين النساء العربيات. وقد تتذكر تعليقات الصحافة على ملابسها الأنيقة والـ«إيشاربات» الحريرية التي تلف عنقها... فتحتج على وجودها بين كثير من نساء أغلفة المجلات النسائية. لكن لا يسعك إلا أن تصغي لامرأة لا ندري إن كان من الدقة أن توصف بامتلاكها رؤية سياسية نسوية. فالمرأة المسيّسة في نظرها تؤنسن القرار، إذ تعمل «بمفهوم تجميعي كي يصبح القرار ملك الجميع». وهي تفعل وتدفع الآخرين للفعل معها، لأنّها تكون وصلت للمنصب كمناضلة لا مستفيدة، وتتعامل مع كليات القضايا لا جزئياتها.
وإن لم يكن لكلام عشراوي هذا ما يبرهنه من بحث وتحليل، فإنّ الخبرة هي التي تسانده. تقول: «حين كنت رئيسة اللجنة في المفاوضات، حرصتُ على البدء بالقدس والاستيطان وحقوق الإنسان، وكنت أعلم أنه إذا حُلّت هذه القضايا الثلاث، فتفكيك الاحتلال سيصير تحصيل حاصل. وحين تركت اللجنة، صار المفاوضون يفعلون مثلما يفعل الأميركان الآن: التركيز على الشكليات والتفاصيل».
لم يكن متوقّعاً أن تكون هذه الرؤية السياسية لحنان عشراوي معدةً للاستخدام، ما إن أصبحت شريكة في مفاوضات مدريد 1991. وقعت على كاهلها مهمة الناطق الرسمي للوفد الفلسطيني في مفاوضات عملية السلام في الشرق الأوسط حتى عام 1993. فخطوط سيرتها المبكرة ترسم لمريدة إدوارد سعيد، وصديقته المقربة، صورة شاعرة وناقدة منهمكة بالتأليف والتعليم. وربما لم يدر في خلدها أنها ستترك هذا الطريق لتواصل سبيلاً آخر أقل شاعريّة.
إنّها حنان داوود ميخائيل، البنت الخامسة والصغرى لطبيب الجيش البريطاني إبّّان الانتداب على فلسطين والأردن. الذي انضم في خمسينيات القرن الماضي إلى الحزب الوطني الاجتماعي وفاز في انتخابات المجلس التشريعي الأردني (1956) ممثّلاً مقعد الضفة الغربية. تسبب نشاط ميخائيل السياسي في إدانته بالتحريض على قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وحكم ستة أعوام، قضى منها سنتين ثم خرج نتيجة لوساطات العائلة المسيحية البورجوازية لدى الملك حسين. وفي العام الذي انتخب فيه ممثلاً لرام الله في المجلس الوطني الفلسطيني (أيار/ مايو 1964)، أرسل حنان للالتحاق بالجامعة الأميركية في بيروت، حيث اختارت دراسة الفن. «أتيت من بيت فيه الكتاب والثقافة والسياسة من ضرورات حياتنا، والدي ممن كتبوا مبكراً عن حقوق المرأة ووالدتي كانت من المتعلمات والعاملات».
حين وقعت نكسة 1967 كانت عضو الاتحاد العام للطلبة الفلسطينيين لا تزال في سنتها الدراسية الثانية. منعت من العودة إلى فلسطين، فاتخذت من الدراسة ملجأً، مواصِلَةً دراساتها العليا في الأدب المقارن في جامعة فيرجينيا في الولايات المتحدة، حيث أصدرت دراسات عدة، بدءاً من «القصة القصيرة الفلسطينية الحديثة: مقدمة في النقد التجريبي»، وانتهاءً بـ«ترجمة الأدب: النظرية والتطبيق».
وحتى تأسيسها لكلية الأدب الإنكليزي في جامعة بيرزيت (1973)، حين سمح لها بالعودة بعد قرار لمّ الشمل، لم تكن حنان انضمت للعائلة العشرواية بعد، فقد التقت زوجها ووالد ابنتيها أمل وزينة، الموسيقي والمصور إيميل عشراوي في عام 1975.
تظهر شخصية إيميل عشرواي في كتاب «صوت العقل: حنان عشراوي والسلام في الشرق الأوسط» للباحثة باربارا فيكتور، كرجل غريب الأطوار صاحب تفكير ومنطق إشكالي. إذ يرى مثلاً أن الاحتلال الإسرائيلي «كان له تمظهر ثقافي واجتماعي، شعرت بأن من الممكن أن يكون إيجابياً. ولسبب ما، كان لدي شعور بأن هذه التعابير هي ما حلمت بها دوماً في ما يتعلق بالموسيقى والعلاقات الاجتماعية وحتى العمارة... وأنها أخيراً ستغير كل شيء نحو الأفضل».
كانت نشاطاتها السياسية حتى ذلك الوقت قليلة. أنشطة ذات نمط «مؤمرك»، كأن تؤسس لجنة حقوق الإنسان سنة 1974 حين يقفل جنود الاحتلال ودباباته جامعة بيرزيت مثلاً. اعتُبرت لاحقاً هذه الأنشطة فهماً خاطئاً وقعت فيه، لأنّها لم تكن تفرّق بين الأنشطة الاحتجاجية على السياسة الأميركية في أميركا أيام كانت طالبة، والنضال تحت احتلال واضطهاد عسكري إسرائيلي.
ظلّت بعض تلك الملامح في تاريخها الشخصي تلاحقها، حتى وهي تتألق في التفاوض، كأنه نمط تتخذه لعيشها. ولطالما وصفها رفاق لها بأنها ابنة «نخبة وأقلية من الأكاديميين في الضفة الغربية»، أي إنّها لم تذق التعذيب أو الإساءة الجسدية ولم تقبع في السجون. لكن هل يمكن توجيه مثل هذه الانتقادات حقاً؟ على بعد مسافة زمنية من مدريد، وفي الانتفاضة الثانية بالتحديد ستصاب حنان في ساقها وهي تسير مع المتظاهرين وستفقد أصدقاء أحباء أيضاً.
في 1993، استقالت من منصبها كعضو في وفد المفاوضات. تنحّت عن السلطة لتؤسس اللجنة المستقلة لحقوق المواطنين للتحقيق في خروقات حقوق الإنسان من جانب الفلسطينين والاسرائيليين. وفي انتخابات السلطة الفلسطينية الأولى 1996 انتخبت لتمثل القدس الشرقية، وقبلت تعيينها وزيرة للتعليم العالي. «وقتذاك طلبنا من الرئيس ياسر عرفات أن يكون في الوزارات على الأقل 30 في المئة نساءً، كان يضحك ويقول: بس!» وكلما اختارت امرأة للعمل معها سُئلت «من هذه المرأة، ما هو تاريخها النضالي؟ ما درجة تحصيلها العلمي؟»... لكن أحداً لا يسأل عن هذه الأمور إذا كان المعني رجلاً!
ومنذ 1998 تنحّت حنان عشراوي عن المناصب السياسية، وآثرت بناء المؤسسات المستقلة، وهو أمر تتقنه حقاً: «لم أبتعد عن السياسة، لا أستطيع أصلاً أن أبتعد عن حياتي... ولكن نعم، ابتعدت عن المناصب». فأصحاب القرار يستخدمون المرأة كرمز يقولون لها «ناضلي، قاومي، تظاهري، استشهدي... لكن عند قطف الثمار الأمر مختلف تماماً» تقول العبارة بصوت عالٍ وتتنهد. أما الآن، فلنقل إن عشراوي تعارض الواقعين المنفصلين في فلسطين، لا هي مع واقع غزّة حمساوية الحكم. ولا مع الضفة الغربية وفيها سلطة منظمة التحرير الفلسطينية. لذلك تعمل من مكتبها في «المبادرة الفلسطينية لتعميق الحوار العالمي والديموقراطية» (مفتاح) التي أسّستها في 1998، وهي مباردة لاستشراف المستقبل ضمن مفهوم بناء المجتمع عن طريق بناء قيادات نسوية، وتعزيز ممارسة الديموقراطية وبالتأكيد الحكم النزيه.


5 تواريخ

1946
الولادة في نابلس

1991
عينت ناطقة رسمية باسم الوفد الفلسطيني المفاوض في مدريد. بعدها بأربع سنوات كتبت سيرتها التي تقاطعت مع عملية السلام «هذا الجانب من السلام: حساب شخصي» (Simon & Schuster, New York)

1998
استقالت من وزارة للتعليم العالي، وأسّست «المبادرة الفلسطينية لتعميق الحوار العالمي والديموقراطية»

2003
حصلت على جائزة «مؤسسة سيدني للسلام» وقوبل الحدث باحتجاج واسع من المنظمات اليهودية في أوستراليا في ما اشتهر بـ Hanan affair

2008
أطلقت مشروع «أكثر من الكلمات: جهد فلسطيني ـ إسرائيلي مشترك لتحسين التغطية الإعلامية للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي»