حسين بن حمزة
كان كل شيء مهيَّأً ليصبح فواز طرابلسي كاتباً أو رسّاماً. فقد ولد في بيت يضمّ مكتبة ضخمة للجد الشاعر عيسى اسكندر المعلوف، فضلاً عن ثلاثة أخوال شعراء هم فوزي وشفيق ورياض المعلوف. كما أنّه كشف منذ سنوات شبابه المبكر عن ميول أدبية وفنية وصحافية. نظم الشعر في مراهقته. وفي مدرسة برمانا العالية، كان محسوباً على فئة «المتأدبين» بسبب تردّده إلى مدخل المدرسة، حيث يقف بائع الصحف صباحاً. الولع بالصحافة جعله مسهماً دؤوباً في مجلة «الرواق» المدرسية. ثم أسّس مجلة أدبية سمّاها «البراعم». صدور المجلة من مطبعة «مجلة شعر»، جعل هروبه المتكرّر إلى بيروت شرعياً. كان ذلك فرصة ليتسلل إلى «خميس شعر» الشهير في فندق «بلازا» في شارع الحمرا، ويجلس إلى طاولة محمد الماغوط في «أنكل سام». حتى حين فكّر في الترجمة، كانت أولى محاولاته ترجمة مشتركة مع أنسي الحاج لقصائد جاك بريفير نُشرت في «شعر».
فجأةً، ترك كل هذا جانباً، وانخرط في السياسة. يُعيد طرابلسي السبب إلى المناخ السياسي في منتصف الخمسينيات وبعده. في تلك الفترة، أسّس مع زملاء في المدرسة تنظيماً ناصرياً. عقدوا صلات مع حركة القوميين العرب في بيروت. شاركوا في إضرابات طالبية. ثم أسس مع آخرين «رابطة الدراسات الاشتراكية». لكن حين التحق بالجامعة في مانشستر، استيقظت ميوله القديمة فاختار دراسة الرسم. ثم انقلب على الرسم بعد سنة واحدة، وسجّل في قسم الاقتصاد في جامعة لندن.
في السياسة، حسم أمره بالانضمام إلى حزب البعث. لكن تجربته البعثية لم تطُل، وكذلك إقامته في بريطانيا. إذ اضطر إلى العودة إلى بيروت ودراسة العلوم السياسية في الجامعة الأميركية. كل هذه الهواجس والتقلبات في سنوات الستينيات تلك، ستجد الترجمة الأمثل لها في مشاركته ـــ مع ستة آخرين ـــ في تأسيس «لبنان الاشتراكي». كان ذلك عام 1964. التنظيم هو النصف الأول من النواة التي ستتكوّن بها «منظمة العمل الشيوعي» بالاندماج مع «منظمة الاشتراكيين اللبنانيين» عام 1970. قبل ذلك، وأثناءها، ستعقد سيرته النضالية صلات قوية له مع المناخ السياسي في اليمن وظفار والتنظيمات الفلسطينية في الأردن.
في «لبنان الاشتراكي» و«المنظمة» لاحقاً، سيعثر طرابلسي على الصيغة التي ستحتضن خياراته وطموحاته كلها. ففي التنظيمين، وجد سياسةً ووجد ثقافة. أغلب الأعضاء كانوا ــــ مثله ــــ مناضلين «أوقفوا» مشاريعهم الفكرية والأدبية والفنية لمصلحة العمل الحزبي والسياسي. في سنوات الحرب الأهلية وبعدها، سيعود هو ــــ ورفاق التنظيم ــــ إلى الكتابة والصحافة، كما لو أنّهم أنهوا مهمة ملحّة، وعادوا إلى قواعدهم «سالمين». سيتركون السياسة بمعناها المباشر، لكنها ستتسرّب ــــ بطرق مختلفة ــــ إلى نبراتهم ونصوصهم. لا يحتاج الأمر إلى تدقيق كثير لكي نعرف أن «المنظمة» كانت تجمّعاً للمثقفين والأدباء. الأسماء التي تخرّجت منه موجودة اليوم في عشرات المواقع المهمة في الصحافة والشعر والنقد والتاريخ والفلسفة والترجمة...
طرابلسي الذي يستسيغ ــــ مبتسماً ــــ هذه الصورة، يشير إلى أنّ النضال السياسي لم يُبعده تماماً عن اهتماماته الأدبية والفنية: «النضال كانت له الأولوية، لكن شغفي بالقراءة والكتابة لم يتوقف. لا تنسَ أنّ سنوات الحرب كان فيها الكثير من البطالة، كما أنّ صداقاتي مع شعراء وكتّاب كمحمود درويش وسعدي يوسف والماغوط وعبد الرحمن منيف ... أبقتني داخل هذا العالم وشجعتني لاحقاً على التفرغ للكتابة». إضافة إلى شغفه الشخصي، لم يُبعده النضال وظروف الحرب عن الكتابة والتأليف والترجمة. كان رئيساً لتحرير جريدة «الحرية» التي تقاسمتها «المنظمة» و«الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين»، ثم مجلة «بيروت المساء» لسان حال «المنظمة».
في عام 1984، وبعد انشقاقات عدة، ترك طرابلسي المنظمة وذهب إلى باريس. قضى هناك عشر سنوات. أكمل الدكتوراه. عمل مع محمود درويش في «الكرمل» وأسّس مع جوزف سماحة مجلة «زوايا» السياسيّة الفصليّة التي صدرت منها أربعة أعداد أو خمسة، وكتب في «اليوم السابع».
الرجل الثاني في «المنظمة»، والقيادي السابق في الحركة الوطنية في سنوات الحرب الأهلية، ثم في عمليات المقاومة ضد الجيش الإسرائيلي، عاد إلى بيروت السلم الأهلي أستاذاً جامعياً ومناضلاً «سابقاً». ما عاشه وخبره طرابلسي سيظهر ــــ جليَّاً أو مدفوناً ــــ في مؤلفاته. الافتتان بالماركسية والحلم الغيفاري. الشغف بالكتب والشعر. الرغبة في إصلاح النظام اللبناني، ولو بالهراوة الفلسطينية، بحسب تعبيره. كل ذلك سيُستعاد في الكتابة. روى الرجل سيرته في «صورة الفتى بالأحمر»، وانتقد ميشال شيحا والإيديولوجيا اللبنانية في «صلات بلا وصل»، وحلل مسرح الرحابنة في كتاب «فيروز والرحابنة». وفي «وعود عدن» وثَّق تجربة اليمن وعلاقته بها.
تقرأ أعماله فتشعر بأنّك أمام مؤرخ من دون جفاف المؤرخين وحياديتهم، وروائي من دون طلاقة الروائيين وشعريتهم في السرد. هل أنت كاتب ضلّ طريقه إلى النضال السياسي، أم أنّ السياسة قادتك إلى الكتابة؟ نسأل. يضحك صاحب «تاريخ لبنان من الإمارة إلى اتفاق الطائف»: «محمود درويش كان يسمّي ما أكتبه الشذوذ الأدبي. وعباس بيضون أشار إلى أنّ هناك روائياً ملجوماً في داخلي. أنا أكتب في الأدب السياسي بلا شك. وأكتب التاريخ مع وجهة نظر شخصية في تفسيره، وأزعم أنّ كتاباتي تملأ ثغرة لا تزال قائمة منذ 40 عاماً في التأريخ عندنا. أتذوّق الشعر. أحلم بكتابة رواية، لكنّي متيقّن من قلّة موهبتي فيها. لولا تجربتي النضالية والسياسية المتنوعة لما كنتُ الكاتب الذي هو أنا الآن. أظن أنّ التجربة تؤدّي دوراً مهماً في الكتابة. آمل أني نجحت في إدخال هذا الهاجس في أعمالي».
هل لا يزال ماركسياً؟ «هذا سؤال بات يُوجه إلى كل شيوعي سابق بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. أنا لا أعتقد أنّ العالم صار أفضل بعد هذا الانهيار. أنا ماركسي انطلاقاً من العناصر الحيّة في الماركسية، وهي لا تزال المصدر الرئيسي لاستلهامي الفكري ونقطة الانطلاق في عملي. ولكني أستفيد من مراجعة أخطائها وسلبيّاتها، وأستثمر ما يرفدها ويقوّيها».
ونسأل القيادي السابق في «الحركة الوطنية»: هل هو نادم على الحرب؟ يبتسم: «أنا لست مع من يندمون، ولا مع من يعلنون أنّهم سيكرّرون موقفهم لو عادت الحرب. الأمران عبثيان. حدثت أخطاء عدة كان من واجبي أن أكشفها وأقدّم شهادة للجيل الذي جاء بعدنا. ولهذا أجريت مراجعة نقدية مراعياً كل الأطراف، وكل النتائج التي تمخّضت عنها الحرب». الحديث مع فواز طرابلسي يترك لديك إحساساً بأنّك عبرت حقبة زمنية كاملة. تحاول إنجاز «بورتريه» لتجربته، لكنك ــــ بلا قصد ــــ تجد نفسك متورطاً في رسم بورتريه جماعي لـ «رفاق» تقاسموا معه التجربة النضالية والحزبية في لبنان، وصاروا اليوم من عُتاة مثقفي البلد وصحافييه وشعرائه.


5 تواريخ

1941
الولادة في بيروت

1964
أسّس تنظيم «لبنان الاشتراكي» مع وضاح شرارة ومحمود سويد وأحمد الزين ووداد شختورة وكريستيان ومادونا غازي

1970
ولادة «منظمة العمل الشيوعي» حيث سيشغل موقع الرجل الثاني بعد محسن إبراهيم. وفي العام نفسه، سافر في جولات ميدانية إلى عدن وظفار

1984
ترك «المنظمة» وسافر إلى باريس. كتب في عدد من المنابر مثل «الكرمل» و«زوايا» و«اليوم السابع». وعاش عشر سنوات في أوروبا، حيث حصل على شهادة الدكتوراه، قبل عودته إلى بيروت

2008
صدور «تاريخ لبنان الحديث من الإمارة إلى اتفاق الطائف» عن «دار رياض الريس للكتب والنشر»