يحيى فكري *سيمتلئ غالباً كل من يتابع الانهيارات الحالية للبورصات العالمية بالشعور بأن الرأسمالية إلى زوال. بالتأكيد هي لا تعيش لحظات نهايتها، وما حدث لا يعني أنها تمر بمرحلة احتضار. فهي ما زالت تملك القدرة على تجاوز الأزمة، وإنما هي إلى زوال لأن النظام الاقتصادي القائم عليها غير قابل للاستمرار إلى ما لا نهاية. تلك الحقيقة التي ظهرت بجلاء خلال الأسابيع الأخيرة دفنت إلى الأبد المقولات التي تردّدت في التسعينيات بشأن النظام الرأسمالي بصفته نهاية للتاريخ. هذه الفكرة التي أطلقها فرانسيس فوكوياما مؤكداً على «أن ما نشهده الآن هو أقل ما يكون نهاية للتاريخ» ، وأن «الصراعات الأيديولوجية والتناقضات الاجتماعية الكبرى أصبحت جميعاً شيئاً من الماضي»، وذلك في مقالة نُشرت على امتداد العالم وأيدها آلاف الكتّاب والمحررين ومقدمي البرامج التلفزيونية وقتها. وهي فكرة أعاد تكرارها أنطونيو غيدنز مستشار طوني بلير عام 1998 في كتابه «الطريق الثالث»، مؤكداً أننا «نعيش في عالم لا بدائل فيه للرأسمالية»! وإذا كانت حركة مناهضة العولمة والحرب التي انطلقت في سياتل عام 1999، بعد عام واحد من صدور كتاب غيدنز، قد صنعت النعش الذي دُفنت فيه المقولات السابقة، فبإمكاننا اليوم القول بثقة إنّ الأزمة الراهنة أهالت عليها التراب إلى الأبد. فما حدث في آب / أغسطس 2008 من انهيار الائتمان على القروض العقارية، وما صاحبه من هروب للرساميل، واضطرار البنوك المركزية في البلدان الكبرى إلى رفع سعر الفائدة، وما أعقبه من تضخم وزيادة مروعة في أسعار السلع الاستهلاكية، انتهى أخيراً بإفلاس عدد من البنوك الائتمانية الكبرى وانهيار في البورصات العالمية. هذا يعني أن قدراً هائلاً من الثروة اختفى وتبدد، ولا يقدر أحد من دعاة الرأسمالية والسوق الحر ومن منظري الليبرالية الجديدة على تفسير ذلك، أو الإجابة عن سؤال: إلى أين ذهبت تلك الثروة؟ وربما يكون السبيل الوحيد للوصول إلى إجابة علمية هو التحليل الذي قدمه ماركس منذ ما يقرب من مئة وخمسين عاماً لتفسير الأزمة الرأسمالية، ونظريته عن القيمة، إلا أن ذلك موضوع آخر. المهم هنا أن حكومات البلدان الصناعية الكبرى قررت تحميل فقراء العالم ـــ سواء داخل بلدانهم أو خارجها ـــ عبء الأزمة الحالية، التي لم يكن لأحد من الفقراء يد فيها. يظهر ذلك في السياسة التي اتبعتها تلك الحكومات بضخ مئات المليارات لإنقاذ المؤسسات المالية المتعثرة، انتُزعت من ميزانيات الخدمات والضمانات الاجتماعية ومشاريع تنمية الفقراء. والمثير للسخرية أنهم يفعلون ذلك تحت شعار «التأميم»، وكأنهم يحاولون ترويج الخدعة باستعادة ذاكرة «دولة الرفاه» التي انقضى زمنها. إلا أن الخدعة لم تنطل على أحد، لذا انفتح الباب أمام سؤال محوري مطروح على الجماهير العريضة من الفقراء في كل مكان: وماذا بعد؟
كيف يمكن التحرر من نظام عالمي للإنتاج (الرأسمالية) غير قابل للاستمرار بسبب طبيعته وآليات عمله نفسها، يعصف في أزماته الدورية بقوت مئات الملايين من البشر، ويدفع قدماً في انتشار الفقر والمجاعات والحروب؟ لقد وضع أحد الكتّاب الاشتراكيين المعاصرين مرة عنواناً لواحد من كتبه «الاقتصاد المجنون»، لوصف الاقتصاد الرأسمالي، و«مجنون» هنا تكاد أن تكون دالة إلى أقصى درجة، فيكفي أن نعرف أن العالم ينتج من الطعام أضعاف أضعاف ما يحتاج إليه جميع البشر في العالم من، ورغم ذلك تعاني الغالبية العظمى من سوء التغذية والمجاعات! هذا التناقض «المجنون» هو جوهر الرأسمالية.
ماذا بعد؟ الإجابة عن هذا السؤال لم تكن أبداً، ولا يمكن أن تكون، إجابة نظرية مجردة. يمكن دائماً بالطبع للكتّاب والمنظرين، ويجب عليهم في أحيان كثيرة، أن يحللوا الظواهر ويضعوا الاحتمالات ويكشفوا عن الفرص والإمكانات ويؤصلوا لمشاريع التغيير أو الثورة، بل بإمكانهم أن يطلقوا العنان لخيالهم ليقدموا تصوراتهم عن العالم ما بعد الرأسمالي وتناقضاته وفرصه، لكن سيبقى كل ذلك في النهاية محض هراء إذا لم تكن هناك تجارب عملية ملموسة تسعى في اتجاه ذلك الهدف. لقد فتحت حركة مناهضة العولمة الرأسمالية، ومن بعدها حركة مناهضة الحرب، الباب أمام كل المضطهدين في العالم للوصول إلى إجابة عملية. وعبر محطاتها الكبرى في سياتل وجنوه وفلورنسا، ومن بعد في تظاهرات 15 شباط/ فبراير و20 آذار/ مارس المتكررة، عادت الجماهير إلى المشهد، وغمر الجميع التفاؤل بالمستقبل. إلا أن ذلك التفاؤل تبدد مع تراجع الحركة، وبات البحث عن إجابة أصعب كثيراً من ذي قبل. ومع التراجع خرجت الكثير من الشروحات والتفسيرات لتحليل معضلات الحركة وتحديدها، والبحث عن حلول لها، إلا أن ذلك لم يصل حتى اليوم إلى إجابة عملية، أي إلى استعادة الحركة لعنفوانها. وإذا كان ذلك النظام العالمي، المجنون الشرير، لن يختفي من تلقاء ذاته، ودون مسيرة نضال طويلة تحشد جماهير الفقراء والمضطهدين في مواجهته، فقد بات الوصول إلى تلك الإجابة العملية تحت ضغوط الأزمة الراهنة ملحّاً أكثر من أي وقت مضى. لماذا فشلت حركة مناهضة العولمة في تجميع جماهيرها حول بدائل واضحة؟ وهل يعود ذلك إلى قصور في تكوينها بصفتها فضاءً يلتقي فيه المتوافقون على رفض العولمة الرأسمالية، غير المتوافقين في الوقت ذاته على البديل لها؟ ولماذا لم تؤدّ حالة التجذير السياسي العالمي التي صاحبت مطلع الألفية إلى اتساع اليسار، مثلما حدث ذلك مع موجة التجذير في نهايات الستينيات ومطلع السبعينيات؟ ولماذا فشلت تحالفات اليسار العريض التي خرجت من قلب حركات مناهضة العولمة والحرب في بلدان عدة في كسب الجماهير إلى صفها، وانتهى بها الحال إلى عودة اليسار إلى حالة التفكك والتشرذم؟
ربما تكمن الإجابة العملية المحتملة هنا داخل عالمنا العربي، حيث تتضافر الخيوط ما بين توحش العولمة الرأسمالية وإفقارها من جانب، ونهبها للثروات عبر التوسعات الاستعمارية وفرض سطوة جيوش الإمبريالية والصهيونية من جانب آخر، وإحكام قبضتها من خلال أنظمة ديكتاتورية تعمل لمصلحتها من جانب ثالث.
هذا التضافر يخلق فرصاً هائلة لتوحيد النضال بين حركات المقاومة المتصدية للاستعمار والصهيونية، والحركات السياسية المطالبة بالديموقراطية والإصلاحات الاجتماعية. إلا أن الفرص لن تثمر شيئاً دون يسار عربي جديد يملك مشروعاً لتوحيد المعركة من أجل التحرر والديموقراطية والعدالة الاجتماعية، منفتح في الوقت ذاته على جماهير الفقراء والمضطهدين، وقادر على حشدها وراءه. وهنا تحديداً تكمن المعضلة: غياب هذا اليسار!
* صحافي مصري