شبل السبع *طبعاً هذا الكلام هراء وغير منطقي، لأنّ المصارف هي أول العارفين إحصائياً وتاريخياً بأن قسماً من القروض العقارية المعطاة لذوي الدخل المحدود لن تسدد كما حصل في بداية التسعينيات وأدى إلى إفلاس قسم من البنوك «الادخار والتسليف»، من دون أن يؤدي إطلاقاً إلى أزمة في النظام المالي أو إلى أزمة عالمية. إذاً ما الذي حصل هذه المرة من جديد؟
الجواب يكمن في الخطأ التاريخي الذي ارتكبته مؤسسات التصنيف الأميركية الثلاث، إذ إنها صنفت القروض العقارية المحوّلة إلى سندات، كاستثمارات غير خطرة موازية لسندات الخزينة الأميركية، علماً بأنّ الفائدة عليها أعلى بكثير، فكان من الطبيعي أن يتهافت المستثمرون على هذه الأوراق المالية لأن معادلة «الخطورة / الفائدة» تجعلها أفضل الأوراق نوعية في السوق، فوجدت طريقها بسهولة إلى شركات التأمين، وخاصة الصناديق السيادية التي هي بحاجة إلى استثمار. فازدياد الطلب خلق ازدياد العرض والعكس بالعكس، فازدادت القروض العقارية «ووُرِّقت» وبيعت خارج المصارف الأميركية، وبلغت حجماً لم تعهده من قبل، حتى أنّها امتصّت مع سندات الخزينة الادخار العالمي بأكمله.
ومع انخفاض الطلب على هذه الأوراق الموجودة بكثرة في المحافظ، وانخفاض النمو الاقتصادي وانخفاض سعر العقارات، بقيت آخر عمليات التوريق في ميزانية المصارف، ولم تجد لها طريقاً إلى السوق، مما أدى إلى انخفاض السعر بسرعة، وباقي القصة معروف.
إذاً لو صنفت هذه الأوراق المالية بمستوى خطورتها الفعلي لما «صُنفت» بتلك الكميات ولَوجَدَتْ نفسها في المحافظ التي لديها قابلية للخطر بكميات أقل، ولكن القصة لا تقول لنا لماذا أخطأت شركات التصنيف الثلاث؟
والآن، وقد حصلت الأزمة واختفت مئات المليارات من الدولارات من ميزانية الشركات المالية، محققة خسائر أكبر من رأسمالها في كثير من الأحيان، فقد عمدت المصارف المركزية إلى حلول قديمة مؤقتة كتأمين السيولة، آملة أن تتمكن المصارف من الحصول على رساميل الطويلة المدى من الصناديق السياسية، حيث الادخار العالمي.
لكن تلك الصناديق خسرت هي أيضاً الكثير من الأموال في الاستثمارات نفسها، ومحاولاتها الأولى لتقويم المصارف كما حصل سنة 1987 و1992 باءت بالفشل، عدا أنّ الرئيس جورج بوش سمح منذ أسبوعين، بتمرير صفقة سلاح إلى تايوان، ممّا خفّف من قابلية الصين للاستثمار. لذلك كله، لم يبقَ سوى مصدر واحد للأموال هو الحكومات، ممّا سيؤدي حتماً إلى ارتفاع عجز ميزانيات الدول الغربية إلى أرقام خيالية: 8/9% من الدخل القومي الأميركي، و5/6% من الدخل القومي الفرنسي...
لكن ماذا الآن؟ الأزمة المالية على وشك الانتهاء والأزمة الاقتصادية بدأت، وستحاول الرأسمالية الأنغلوساكسونية أن تبني نموذجاً جديداً تماماً كما فعلت في 1944 و1972 و1982 يمكّنها من الهيمنة مجدداً. فبرأيها أنّ عالماً انتهى، إنما العالم لم ينتهِ، وآخر ما استنبطوه هو التأميم الجزئي المؤقت.
أما تفاعلات هذه الأزمة على العالم العربي فستكون كبيرة، وخاصة بما يتعلق بالدول النفطية والدول المدينة.
فتلك الأخيرة ستجد صعوبة أكبر وأكبر للحصول على قروض ومساعدات نتيجة ازدياد العجز الكبير (السنة المقبلة) في ميزانيات الدول الغربية، إذ ستصل إلى نحو 10% من الناتج القومي في الولايات المتحدة الأميركية وستتعدى الـ5% في فرنسا... أما الدول النفطية التي خسرت الكثير من هذه الأزمات، فستضطر إلى تنويع استثماراتها في ظرف غير مؤات بالنسبة لانخفاض أسعار النفط.
* أستاذ محاضر في جامعة «جوسيو» في فرنسا