ورد كاسوحة *مرّة أخرى يضعنا العبث الأميركي المفرط في شؤون المنطقة أمام جملة من الاحتمالات المقلقة والخطيرة للغاية. احتمالات تغدو معها كل دولة تعترض على الحالة الكولونيالية في العراق، مرشّحة لسيناريوهات شبيهة بالحالة الباكستانية. وهي على ما نعلم حالة تنتهج القوات الأطلسية «المتأمركة» إزاءها نهجاً عدوانياً لا يفرّق بين الإرهاب «القاعدي» والقبائل «البشتونية» المكوّنة فعلياً لنسيج منطقة وزيرستان الحدودية مع أفغانستان. هذا الخلط الأميركي المتعمّد بين الحالتين «القاعدية» والقبائلية يجعل من تلك المنطقة ضحية مثاليّة للعسف الجوي الأطلسي. وهو عسف يستميت في أخذ الأطفال والنساء والشيوخ بجريرة «تعاطفهم» مع نهج «القاعدة» حتى يحقق ما يمكن تسميته بفضيلة الردع المزدوج: ردع «القاعدة» ومن يؤويها ويتعاطف معها من جهة، و«ردع» الحكومة الباكستانية التي توفّر لهؤلاء «المارقين» الملجأ والمأوى ولا تبذل كثيراً من الجهد في ردّهم عن غيّهم وتماديهم في الاعتداء على القوات الأطلسية والأميركية «المحرّرة».
فإذا كانت «الشراكة» الأميركية ــ الباكستانية في «الحرب على الإرهاب» لم تشفع لإسلام آباد ولم تسعفها في تجنّب عقاب السيد الأميركي، فكيف إذاً بدولتين تناصبهما الإدارة الأميركية «أشد العداء» وتضعهما على لائحة أكثر الدول تهديداً لمشروعها العراقي وإن طرأ قليل من التعديل على هذه التقديرات الأميركية في الآونة الأخيرة بعد التصريحات الأميركية المتكررة عن «التعاون السوري» في مجال ضبط الحدود والتضييق على المتسلّلين إلى العراق.
وما يخفّف قليلاً من وطأة هذا التوقع «لهجوم أميركي وشيك» على سوريا وإيران، هو نمط المقاربة الأميركية المختلف لهاتين الحالتين «الممانعتين». فاكتفاء الولايات المتحدة طيلة الفترة التي أعقبت غزو العراق بكيل الاتهامات «الببغائية» و«الجوفاء» لسوريا، من دون البناء على هذه الاتهامات وإتباعها بأعمال عسكرية «ردعية» وانتقامية، إنما يشي برغبة أميركية حينها في تحييد مؤقت للساحة السورية ريثما تنضج الظروف لذلك.
ويبدو أن التقدير الأميركي حينها للضربة المقبلة لسوريا (مجزرة البوكمال) قد جاء على الشكل الآتي: إن إنضاج الظروف المؤاتية لضربة موجعة للسوريين إنما يحتاج قبل أي شيء آخر إلى تفادي ردّ الفعل السوري وتدجينه وحصره في حدوده الدنيا أي في إطار الشجب والاستنكار والإدانة اللفظية للعدوانية الأميركية والشكوى غير المجدية إلى مجلس الأمن.
ولم يكن هذا ليتحقق لولا تغطية العدوان على البوكمال من طرف إدارة أميركية فاشلة ومتهالكة وراحلة، وهذا يعني أن تحميلها المسؤولية من طرف السلطات السورية لن يغير من واقع رحيلها ولامبالاتها تجاه جرائمها المتكررة في العراق وأفغانستان وباكستان وسوريا ولبنان شيئاً. لذا «يسجل» لإدارة جورج بوش الفاشلة أنها أضافت إلى لائحة «إنجازاتها» في تدمير العراق وتذريره أهلياً على نحو غير مسبوق «إنجازاً» جديداً. والجديد فيه هذه المرّة هو سفوره وكشفه عن وجه قبيح كثيراً ما تلطّى أصحابه وراء ميليشيات الموت الطائفية في العراق (الشيعية والسنية) حتى يبرّروا ارتكاباتهم وأفعالهم الفاشية.
وأمام هذه «الإنجازات» الأميركية «الجديدة» في البوكمال ووزيرستان وبقية الأصقاع الشرق الأوسطية التي باتت مسرحاً لجرائم مرتزقة البنتاغون و«بلاك ووتر»، لا بد من دعوة المدعي العام لمحكمة الجزاء الدولية المشغول حالياً بملاحقة الرئيس السوداني على ارتكاباته في دارفور إلى الكفّ عن سياسة الكيل بمكيالين والتخلي عن التسييس المفرط للمحاكمات المشابهة، والاستعاضة عن هاتين السياستين
اللاأخلاقيتين بانتهاج «المعاملة بالمثل»، أي محاسبة المرتكبين ومجرمي الحرب في دول الشمال الغنية والجنوب الفقيرة على حد سواء، دون الأخذ في الاعتبار مكانة هؤلاء أو ثقلهم في السياسة الدولية. ولتكن البداية بإجراء محاسبة حقيقية للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط. محاسبة تبدأ بإجراء مقارنة نزيهة ومتوازنة بين انعكاسات هذه السياسة المدمّرة على الشعوب العربية والشرق أوسطية، وانعكاسات سياسات التطهير العرقي التي مورست سابقاً بطريقة منظّمة على شعوب رواندا والبوسنة ودارفور.
والأكيد هنا أن النتيجة لن تكون في مصلحة الولايات المتحدة على الإطلاق، رغم المرافعات الأميركية المتكرّرة التي تحاول عبثاً دحض هذه الحقيقة العارية والصارخة. حقيقة سوف تبقى تلطّخ سجلّ «العالم الحر» لأجيال مقبلة ولن تنفع معها كل محاولات «الرجل الأبيض» لتبييض ماض اصطُبغ بدماء ضحاياه وضحايا مغامراته «التمدينية».
بالعودة إلى تفاصيل الغارة على البوكمال، ورصد ردود الفعل السورية الرسمية الشاجبة لها، يمكن الزعم أن ردوداً كهذه ليست دواءً ناجعاً لحالة أميركية متفلّتة من
عقالها، ومندفعة لإسقاط كل الحدود الممكنة أمام مساعيها لاحتواء المواقف التي تصنّفها في خانة «غير المتعاونة بالكامل». وهي تماماً الخانة التي يمكن وضع المواقف السورية الأخيرة من «الاتفاقية الأمنية» والتمثيل الدبلوماسي في إطارها. فالنظام في دمشق استجاب أخيراً وبعد طول «ممانعة»، للرغبات الأميركية في تسهيل «الحل» في العراق، ولكن بشروط محددة تتصل بفك العزلة المضروبة أميركياً على سوريا منذ غزو العراق واغتيال رفيق الحريري ومباركة المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل.
ورغم هذا التجاوب السوري الملحوظ، فإن الإدارة الأميركية بلسان متحدثيها في البيت الأبيض ووزارة الخارجية ما زالت تعتبر هذا التعاون غير كاف، وتحاول الضغط دبلوماسياً أو عسكرياً على بيادقها في المنطقة لحمل دمشق على مزيد من «الإذعان» للدور الأميركي في العراق.
وتأتي عملية البوكمال ضمن هذا السياق تماماً. وهي عملية يجدر بها أن تبدّد الوهم الذي يعتري حالياً القيادة السورية، ويجعلها تسارع إلى الانفتاح غير المحسوب وغير المنطقي على العروض الأميركية. إذ مهما أفرط السوريون في محاولة تفادي المواجهة العسكرية مع أميركا فإنهم لن يفلحوا في ذلك، وإن أفلحوا فسوف يقتصر «إنجازهم» على محاولة ترحيل المواجهة المقبلة ما أمكن، ريثما تنضج الظروف لذلك. والنضوج هنا كناية عن مراكمة شروط الردع المطلوبة في مواجهة العدوانية الأميركية. شروط تبدأ بشراء منظومات التسليح الصاروخية، ولا تنتهي عند حدود تطوير القدرة الدفاعية المتراجعة للجيش. هذا إذا لم تحمل أميركا دولاً مثل روسيا والصين على الامتناع عن تسليح سوريا وإيران بمنظومات تسليح ثقيلة وكفيلة بتحقيق «المُعادل» الردعي المطلوب.
وفي انتظار تبلور هذه «المعادلة الردعية»، لا بأس بقليل من الحراك المجتمعي المناهض للعدوانية الأميركية، إن عبر التحركات الجماهيرية العريضة، أو عبر حمل بعض «النخب» على النزول إلى الشارع وكسر احتكار النظام وبيروقراطيته القاتلة لتحركات كهذه. فليس هناك وصفة أفضل من البيروقراطية لأخذ أي تحرك جماهيري أو مطلبي إلى عكس ما يبتغيه تماماً.
وتوخياً للدقّة وعدم الخلط بين معارضة النظام ومعاداته (كما تفعل بعض الدمى «المعارضة» في الخارج) لا يسع المرء إلا أن «يثني» على خطوة إغلاق المركز الثقافي والمدرسة الأميركيّين، حتى لو ارتدى هذا «الثناء» شكل التقاطع الموضعي مع ردود الفعل الرسمية تجاه الغارة الأخيرة.
أما عن تقويم الخطوة الأخرى المتصلة بتقليص عديد حرس الحدود مع العراق، فالأجدى التريث قليلاً حتى تأخذ مفاعيلها بالكامل، ليسهل على المراقب والمتابع تحليلها تحليلاً دقيقاً، ورصد ردود الفعل الأميركية والعراقية عليها. ردود لن تتأخر كثيراً وسوف ترتدي على الأغلب طابعاً «عنيفاً» ولن يقلل من «عنفها المفترض» انتخاب رئيس أميركي جديد.
ويبقى «الرجاء» ألا تفتح مشاهد الدماء المسفوحة على الطرقات في البوكمال شهية الأميركيين إلى مزيد من جرائم سوف ترشّح المنطقة الحدودية السورية ــ العراقية لأن تكون مسرح العمليات المقبل بعد «وزيرستان» الباكستانية.
* كاتب سوري