معمر عطوي *تكمن الإشكالية الأساسية لدى الفكر الديني، في البعد المذهبي وتداعياته على الواقع السياسي ــ الاجتماعي. إذ تؤدّي «دوغما» العقيدة، دوراً قذراً في تسويغ ظهور المواقف المتطرفة لكل جماعة. هي «الجاهلية» بصورتها الحديثة، حيث تطغى «سلامة العقيدة» على السياق العلائقي بين البشر، بما يؤسّس لظهور أحكام متبادلة، تهفّت مقولات التسامح والحوار و«الكلمة السواء». وليصبح حديث النبي عن «اختلاف أمتي رحمة»، نقمة تصيب «الأمة الإسلامية» ومستقبلها بالعقم.
مناسبة القول تجد مبرّراتها في أكثر من ساحة وفي كل عصر. بيد أن ما تشهده المنطقة في هذه المرحلة يمثّل مصداقاً واضحاً لهذه التصورات؛ بعض أنصار المقاومة في لبنان مقيّدون باحترام المرجعية «الشيعية» في العراق، التي سوّغت التعامل مع الاحتلال، وغطّت حركات «إسلامية» شيعية تذرّعت بظلم صدام حسين من أجل أداء دور حصان طروادة لجلب الأعداء إلى المنطقة (مع التنويه هنا بموقف السيد حسن نصر الله الرافض للعملاء في المنطقة، وتأكيده على العراقيين منهم). في المقابل، تلجأ بعض الجماعات السنيّة المشاركة في المقاومة أو الرافدة لمشروعها، إلى إصدار تعميمات ظالمة بحق كل الشيعة في العراق، من دون استثناء جماعات شاركت أيضاً في المقاومة العراقية ضد المحتل ووقفت إلى جانب مجاهدي الفلوجة والرمادي، أمثال «جيش المهدي». الجيش الذي ورطته أصابع الاستخبارات لاحقاً، في نشاطات إجرامية ذات طابع تصفوي مذهبي، ما دفع السيد مقتدى الصدر إلى تجميد نشاطاته بهدف غربلة العناصر المتورطة، التي أساءت إلى صورة المقاومة «الشيعية».
طبعاً، فكرة التعميم خاطئة وتؤدي إلى أخذ الصالح بجريرة الطالح «ولا تزر وازرة وزر أخرى» (سورة الإسراء). بيد أن العملاء لا دين لهم ولا مذهب، وإن كانوا ينتمون «قسراً» إلى جميع المذاهب والقوميات: الأكراد وغالبيتهم من السنّة يسيرون في المشروع الأميركي، كذلك الحزب الإسلامي «السنّي»، الذي شارك في آليات السلطة التابعة للاحتلال، بذريعة مبطّنة «عدم ترك الشيعة يسيطرون على البلاد».
يتكرّر المشهد مع بعض سنّة لبنان، حين وقفوا (ومنهم من كان في ميدان الجبهة ضد الاحتلال الصهيوني)، في وجه حزب الله، دعماً لرئيس حكومة «سني» يرتبط بعلاقة سافرة مع واشنطن ومن يدور في فلكها.
وظهر في لبنان من ينادي بمقاومة «خطر» الصفويين والشيعة والفرس (لعلهم في مزارع شبعا) وحماية أهل السنة «الذين يتعرضون للاضطهاد».
لعلّ وعّاظ السلاطين، قد عثروا على فتوى تجيز للرجال معانقة النساء (الرئيس فؤاد السنيورة ووزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس صيف 2006)، طمعاً بمساندة الولايات المتحدة له في وجه «الشيعة». المشهد قد يفسّر في الاتجاه نفسه في النجف، (معانقة علماء دين شيعة لحاكم «الوصاية» الأميركية المدني، بول بريمر)، ترحيباً بمن «أنقذ» الشيعة من ظلم صدام حسين، «السني».
وفي لبنان، تفقد المقاومة بصورتها المذهبية بعض ذلك الوهج الذي يرافق انتصاراتها في العادة. حين يتجاهل بعض المتحدثين باسمها ما يقوم به «الإخوة» العراقيون من تطبيع مع الاحتلال. وتصبح صفة «المقدّس»، التي يُنعت بها هذا الفقيه أو ذاك من فقهاء الاحتلال، في إعلام المقاومة، مثيرة للاشمئزاز، ودافعة للتساؤل عن صدقية المقاومين في طروحاتهم الوطنية «المتعالية على المذهبية».
وجه التخلف هنا ــ وعلى الضفتين ــ واضح؛ فئة مقاومة تبيح قتل أبناء المذهب الآخر، وفئة مقاومة أخرى تدافع عن مواقف أبناء مذهبها حتى لو كانوا في صفوف الاحتلال.
وجه التخلف هذا يُضعف فكرة الإيمان بالمقاومة والثقة برجالاتها وإعلامها، ويبخّس مقولاتها بشأن سعيها نحو المجتمع الكريم. هذا إذا كانت فكرة المقاومة في وعي القيمين عليها، تعبيراً عن تمرّد لا يقتصر على العمل الأمني والعسكري ضد العدو، بقدر ما يسهم في تغيير شامل في الذهنية السائدة وفي الوضع الاجتماعي والاقتصادي والتربوي، من منطلقات إنسانية بحتة، لا دينية ولا مذهبية.
الجانب الآخر من الإشكالية، يتعلق بـ«ظلامية الجماعة»، بمعنى تحجيم خطر العدو الذي يصيب أمة ما بسبب مصالح اقتصادية ـ على الأرجح ـ أو جيو ـ بوليتيكية.
تحجيم يتمظهر في خطاب «الجماعة» التي ترى أن الخطر يهدّدها وحدها من أجل عقيدتها ومبادئها. ذهنية بدأت مع اليهود في أوروبا، وتبلورت أكثر مع أحداث المحرقة النازية، إذ يصبح الظلم لاحقاً بجماعة اليهود فقط دون غيرهم، مع العلم أن ضحايا النازية كانوا من مختلف الأديان والقوميات.
هذه الذهنية التي تكررت رؤيتها وسط الشيعة في العراق وانسحبت في ما بعد على الأكراد، هي التي خلقت مناخات توحي أن صدام حسين كان يتعمّد قتل الشيعة دون غيرهم، بينما الواقع يؤكد أن معارضين كثيرين من سنّة وغيرهم في العراق، كانوا من ضحايا التعذيب والاعتقالات في زمن حزب البعث البائد.
الصورة نفسها يمكن مشاهدتها على الحدود الإيرانية ــ الباكستانية في إقليم سيستان بلوشستان، حيث تقوم جماعات متطرفة بتوتير أمن البلاد بإيحاء أميركي، تحت ذريعة الدفاع عن أهل السنّة من ظلم النظام الشيعي، فيما تقوم هذه الجماعات، بتسهيل مرور المخدرات إلى العراق والخليج مروراً بإيران التي باتت تعاني وجود أكثر من مليوني مدمن على «السموم البيضاء». والمخدرات يفترض أنها حرام في الإسلام.
كذلك نجد في البحرين والسعودية من يقلّص خطر الأنظمة الملكية هناك، ليجعلها فقط ضد الشيعة، رغم أنها تبلغ كل من عارض السلطة حتى لو كان ابن عم الملك نفسه أو شقيقه.
وعلى نحو أشمل، هناك كثير من المسلمين، يرون أن خطر الأميركيين يستهدف «الأمة»، لأجل دينها. ولا ينظرون إلى الشعوب الأخرى، التي نالت كفايتها من الظلم الغربي وفي مقدمتهم اليابانيون والفيتناميون وشعوب أميركا اللاتينية، فيما كانت مصلحة واشنطن دعم الأنظمة التوتاليتارية الإسلامية في العالم، عندما خدمت مصالحها. الأسطوانة تتكرر مع مسيحيي الشرق، وخصوصاً في لبنان والعراق، حيث تتذرّع الكنيسة بإحباط المسيحيين وهجرتهم، مع العلم أن المحبطين من المسلمين، المهاجرين إلى الغرب، هم أكثر بكثير من أقرانهم المسيحيين.
هذه الذهنية الذرائعية، التي تسعى إلى تسويغ «الخوف» من الآخر، أو تبرير محاولات القضاء عليه (حتى لو كان السلف أكثر ظلماً من الخلف)، هي أحد أكبر أمراض العصر الجاهلي الحديث وأخطرها، حيث أصبحت مصلحة «الجماعة» المذهبية أو الدينية، فوق القيم الأخلاقية. وباتت أهداف الإنسان في أن يعيش بكرامة في هذه الحياة، أهدافاً ثانوية في ظل استفحال الموضوع المذهبي، وتبلور الخطاب الغرائزي الذي يصبّ في خدمة المذهب وتقديس ما هو غير مقدّس، إن لم يكن وهماً.
* من أسرة الأخبار