فادية حطيطنمضي العمر ونحن نحاول السيطرة على حياتنا، على قراراتنا، على مستقبلنا. ونكتشف أننا داخل مساق لولبي. نولد صغاراً على كل ما يحيط بنا. الكنبة والطاولة والباب والكرسي، والأهم من كل ذلك الناس الذين يحيطون بنا، كل ذلك يبدو أكبر من أن نبلغه. ثم تدريجياً نزداد في الحجم فنقترب من الأشياء، ونزداد في الوعي فنقترب من الناس. وبالطبع المفارقات سوف تكون كثيرة مع الأشياء ومع الناس. بعضها سيتحول إلى مطبات، يمكن أو لا يمكن تجاوزها، والبعض الآخر سيتحول إلى منعطفات نعيد ترتيب علاقتنا بأمورنا على ضوئها. ولكن أية لحظة هي التي نكون فيها الأقرب إلى ذواتنا؟ لو طرحنا هذا السؤال على الناس، لأجابنا كل واحد على طريقته. أحدنا سيقول حين أحمل طفلي، وآخر سيقول حين أنظر في عيني من أحب، وثالث سيقول حين أكتب، وآخر حين أسير وحيداً على طريق طويل، وآخر حين أنظر في المرآة. وبالتأكيد هناك أجوبة كثيرة أخرى. ومنها ما هو أكثر بساطة وأكثر إثارة.
أخبرتني مرة جارتي أن أكثر لحظة تحبها هي تلك التي يكون فيها أطفالها في المدرسة وزوجها في العمل وهي انتهت للتو من تنظيف البيت. كل شيء مرتب. الشراشف ممدودة على الأسرة، والثياب مطوية بدقة في الخزائن، الأرض تلمع، لا غبار على الأشياء، وهي تقف على نافذة المطبخ تشعل سيجارة وتروح تراقب هطول المطر من خلف الزجاج العابق بدخان سيكارتها.
منذ أن أخبرتني جارتي عن تلك اللحظة وأنا أفتش عما يشبهها. إنها لحظة طمأنينة قصوى. أن تشعر بأنك أنجزت ما عليك، وأن العالم هانئ ومضبوط حسب رغباتك، وأن من تحبهم هم آمنون الآن وهنا. وفكرت أن هذه الكلمات تستحق أن تكون أغنية. أغنية ستات البيوت. تغنيها امرأة مكتنزة على طريقة النساء السوداوات اللواتي يغنين الجاز وتصدح أصواتهن بكل القهر الذي حملنه منذ أجيال عديدة وبكل الرغبة في الانعتاق. صوت يخترق الوجود كله ويصعد نحو السماء. وسنذهب نحن النساء العاملات إلى الحانة نستمع إلى ذلك الصوت وتلك الأغنية ونترك أنفسنا للحنين، وللتنفيس عن قهر مكبوت عشناه وعاشته أمهاتنا وجداتنا قبلنا. وأحدس بأننا سوف نبكي. إذ ستكتشف إحدانا أنها لم تعرف تلك اللحظة مطلقاً، وستعلن أخرى أنها خدعت لزمن طويل وأدارت نظرها إلى الجهة الخاطئة، وستعترف ثالثة بأنها كانت منهمكة وفاتها أن تتنبّه إلى هطول المطر، وثمة أخرى ستبكي دون أن تعرف لماذا.
إنها لحظة فريدة تلك التي نلتقي فيها ذواتنا. إذ حالما نعيشها نكون قد كبرنا ولن يمكننا أن نعاودها. أطفالنا الذين حملناهم صغاراً سيكبرون، والنظرة إلى عين من نحب ستمتلئ بأشياء كثيرة، والأحلام سوف تتضاءل فلا تملأ الطرق الممتدة، والكتابة لن يسعها أن تقول كل شيء، والمرآة لن تضخ مزيداً من النرجسية. مع ذلك، ثمة دوماً لحظة جميلة بانتظارنا، ولكن علينا أولاً أن نزيل الغبار.