أيّها الفلسطيني... ليس لك إلا هذه الخيمة!

«زوجته عادت إلى بغداد، وأولاده بين العاصمة العراقيّة وكوالالمبور وعمّان ودمشق. شقيقته هاجرت إلى السويد، فيما الأخرى محتجزة في «التنف» عند الحدود السورية ـــ العراقية». أما هو فـ «مستقرّ» حاليّاً في مخيّم «اليرموك»، حيث أنجز «التغريبة السادسة»

خليل صويلح
كان نصيب أسرة الطفل الفلسطيني نواف أبو الهيجاء أن تتوجه إلى العراق ضمن خمسة آلاف أسرة، تبرّعت القيادة العراقية باستيعابها، بعد نكبة 48 وتهجير أهالي عشرات القرى الفلسطينية على طريق الشتات. استمرت الرحلة 72 ساعة متواصلة في شاحنة متهالكة، انتهت إلى معسكر بريطاني أُخلي حديثاً، في البصرة. لكنّ عاصفة هبّت بعد أيام خرّبت المعسكر، فغادرت الأسر المنكوبة إلى بغداد لتقطن هذه المرّة في بيوت اليهود المهجّرين من العراق. ملهاة سوداء رافقت مسيرة الطفل نواف أبو الهيجاء الذي صار مع الوقت بغدادياً. في الجامعة درس اللغة الإنكليزية، وأحب الأدب. كان أحد المدرّسين هو جبرا إبراهيم جبرا. فلسطيني آخر قادته الغربة إلى بلاد الرافدين «أحببت الشعر الإنكليزي على يدَي جبرا، ثم التفتُّ إلى الأدب عموماً، وكتبت رواية وأنا في الثالثة عشرة» يقول نواف. ويتذكر بشغف رواية غوته «آلام الشاب فارتر»: «كانت أول رواية تقع عليها عيناي، وكانت نسخة قديمة من دون غلاف».
ما كاد يرسّخ خطواته الأولى في بغداد كاتباً، حتى تعرّض للاعتقال إثر انقلاب عبد السلام عارف (1965)، ثم أُبعد إلى سوريا بالطائرة. هناك، عُيِّن مدرّساً لمادة اللغة الإنكليزية في مدارس اللاذقية، وبدأ يكتب القصة القصيرة، ونشر محاولاته الأولى في «الأحد» البيروتية لصاحبها رفيق خوري... ثم كتب رواية «الطريد» (1965)، وانخرط في العمل السياسي والثقافي، فوجد في انتسابه إلى حزب البعث تحقيقاً لتطلعاته القومية. ولفرط حماسته، كتب مقالاً بعنوان «الجواد الذي كبا في السهل» يرثي فيه انشقاق الحزب وتباعد مصالح رفاق الأمس. فكان أن طُرد من العمل...
في عام 1966، انتسب إلى «اتحاد الصحافيين والكتّاب الفلسطينيين»، وشارك في المؤتمر التأسيسي الذي عُقد في غزة: «هناك تعرّفت إلى غسان كنفاني، وكنّا نقيم في غرفة واحدة في الفندق، ومن وقتها صرنا صديقين». كانت نكسة 67 خيبةً أخرى في سجل الخيبات المتلاحقة، أعقبها اعتقاله «بتهمة كاذبة». فما كان أمامه إلا أن يغادر سوريا إلى الكويت للعمل في التدريس، ومنها عاد إلى بغداد ليستقر فيها حتى الاحتلال الأميركي للعراق: «سقوط بغداد غيّر مجرى حياتي، فقررت أن أغادر العراق، وخصوصاً أنّ اسمي كان موجوداً في قوائم التصفية».
خرج الرجل الستيني سراً، ذات فجر من أيار (مايو) 2003، بحقيبة تحتوي حاجاته الضرورية ونسخة واحدة من كل عنوان أصدره حتى ذلك التاريخ: «كانت تهمتي كفلسطيني بأنّني العقل المدبّر لأبي العباس». توجه إلى الأردن أولاً، في رحلة أكثر مرارة. «عند حدود الأردن، سمحوا لي بالدخول إلى مخيم الرويشد، وأمروا زوجتي بالعودة إلى بغداد، فعدنا معاً إلى مخيم الكرامة، أو ما يسمّى «بين الحدين» في أرض No man's land. كانت زوجته العراقية في أشهر حملها الأخيرة، فاضطرت إلى أن تولد في خيمة، وإذا بالمولود توأم. يعلّق نواف متهكماً «كما ترى، فإن الخيمة تلاحقني خلال ستين عاماً».
لعل الحكاية تبدأ من «التغريبة السادسة» وهي روايته الأخيرة التي بدأ كتابتها في الخيمة. خلال 179 يوماً، وهي الأيام المريرة التي قضاها في المخيّم، لم يجد ما يفعله سوى الكتابة، وتأمّل مسيرة حياته ومكابداته من منفى إلى آخر. «لا تحتاج «التغريبة السادسة» إلى تخييل، فالواقع أشد غرابة من المجاز الروائي، حتى إنّني تحاشيت ذكر بعض الوقائع التي عشتها، خشية ألا يصدّقها أحد لفرط فانتازيتها». خلال وجوده في المخيم، اتّصل به أبناؤه من بغداد، وأخبروه أنّ حياتهم مهدّدة بوجود مكتبة في البيت، فبعد الاحتلال، انتشرت جماعات تكفيرية بالجملة، وانهالت الحملات التفتيشية، والقتل على الهوية... وكانت حصة الحي الفلسطيني في بغداد التهجير والطرد. أما مَن يقرأ كتاباً، فمصيره القتل. يقول أبو الهيجاء: «أوصيت أبنائي بأن يحرقوا المكتبة. كنت بذلك أحرق تاريخي وأرشيفي الذي جمعته خلال نصف قرن، كما أنني فقدت مخطوطات لم أتمكّن من إحضارها معي إلى المخيم».
في مناخ صحراوي وجحيمي تحت خيمة في العراء، كان الموبايل صلته الوحيدة بالعالم الخارجي. ويوماً وراء يوم، أضاف إلى الخيمة ملحقاً، وهو عبارة عن خزانة حديدية قديمة وجدها في المخلفات واكتشف أن حياةً موازية تنمو في حدود المخيّم: «لكلٍّ حكايته الغريبة: يزيديون، وأعضاء من منظمة «خلق»، وعراقيون يحلمون بالهجرة إلى أوروبا، وآخرون مهدّدون بالقتل». على ضوء القنديل، راح يستعيد شريط حياته، فكتب «أيّها الفلسطيني لا تبتئس، كُتبت عليك الخيمة». وقرر أن يؤرخ معاناة الفلسطيني من النزوح الأول إلى النزوح الأخير: «كنت أكتب يوميات على شكل سيرة عائلية، تمتد من مطلع القرن العشرين إلى الاحتلال الأميركي للعراق 2003».
في مخيّم «الكرامة»، تعرّف نواف أبو الهيجاء إلى الصحافي الياباني ميكي ساكي، الذي جاء المخيم أكثر من مرة لكتابة تحقيقات عن أوضاع المهجّرين وظروف حياتهم القاسية، فنشأت صداقة بينهما. وحين علم ساكي بأنّ نواف كاتب، اهتم بما يكتب ونشر تحقيقاً مصوراً عن مأساته «راح يلاحقني من مكان إلى آخر. زارني بعد مغادرتي المخيم في الأردن للاطمئنان إلى ما أكتب، بقصد ترجمة سيرتي إلى اليابانية، ثم لحق بي إلى دمشق برفقة مترجمة يابانية، فعرفت أنّ الموضوع جدي. اليوم أضع اللمسات الأخيرة على الرواية، ويُتوقّع أن تصدر «التغريبة السادسة» باليابانية خلال العام المقبل، ويتوقّع أن تعرف انتشاراً واسعاً”.
في «التغريبة»، يؤرخ أبو الهيجاء جغرافيا الشتات، ورحلة العبور التراجيدية من بلد إلى آخر، في موزاييك درامي مؤثر، يغلب عليه الموت، وتؤدّي الذكريات واليوميات الشخصية دوراً محورياً في العمارة السردية عبر ستة أجزاء، هي محصّلة شقاء وأحلام وهزائم وخيبات. في مخيم اليرموك عند أطراف دمشق، يقطن نواف أبو الهيجاء وحيداً، بعد إبعاده من الأردن ومغادرة زوجته إلى بغداد، لتكتمل سيرة الشتات: «أولادي بين بغداد، وكوالالمبور، وعمّان، ودمشق، وشقيقتي هاجرت إلى السويد، وشقيقة أخرى محتجزة في مخيّم «التنف» عند الحدود السورية ــــ العراقية». يضحك أبو الهيجاء بمرارة من عبثيّة المأساة، ويردّد: «سيرة غجرية لا تحتاج إلى مجاز».


5 تواريخ

1942

الولادة في قرية عين حوض قرب حيفا

1948

النزوح إلى العراق

1966

صدور روايته الأولى «الطريد»

2003

هرب من العراق واحتُجز في مخيّم «الكرامة»

2008

أبعد من الأردن إلى سوريا، وأنجز «التغريبة السادسة»