محمد زبيبفي 23 نيسان الماضي، صدرت وثيقة موقّعة من 11 كتلة نيابية و3 هيئات اقتصادية والاتحاد العمالي العام، وذلك بعد يومين من المناقشات «الحامية» في إطار المنتدى اللبناني الثاني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، الذي دعت إليه بعثة المفوضية الأوروبية في لبنان، بالتنسيق مع مجموعة FEMISE، وبمساعدة خبراء لبنانيين مستقلّين. نصّت هذه الوثيقة «التاريخية» و«غير المسبوقة»، على أن المشاركين (وعلى رأسهم تيار المستقبل والتغيير والإصلاح والتنمية والتحرير والوفاء للمقاومة واللقاء الديموقراطي...) توافقوا على العمل بجد من أجل إحلال «السياسات الاجتماعية المتكاملة» محل «السياسات الاجتماعية التعويضية»، بهدف تقليص الاختلالات الحالية، وإرساء سياسات جديدة أكثر تماسكاً وإنصافاً، لحماية المسنين وذوي الحاجات الخاصّة والفئات الهشّة، وتحسين معيشة كل اللبنانيين، ولا سيما الفقراء والطبقة الوسطى، وتعزيز ثقتهم بالمستقبل...
واتفق هؤلاء ــ الذين يمثّلون أكثر من 97 في المئة من مجموع النواب وجميع الأحزاب الحاضرة في البرلمان ــ على اتخاذ كل القرارات اللازمة من أجل تحويل هذا «التوافق العام» إلى قوانين وإجراءات تنظيمية وعملية، إلا أنهم كذبوا ولحسوا تواقيعهم ولم يلتزموا بأي بند من بنود هذه الوثيقة، بل عملوا عكس ما التزموا به، وذهبوا إلى أبعد مما كان المواطنون يشتكون منه، فأمعنوا في المحاصصة وتغليب المصالح الفئوية على حساب العامّة، وكسّروا أضلاع الفقراء بأحمال إضافية كرمى لعيون مجموعة اللصوص الذين احتكروا السلطة واستولوا على مقدّرات الدولة ومواردها وأصولها وأملاكها.
كيف ذلك؟ لنمعن النظر ببنود الوثيقة وما جرى بعد توقيعها:
- لقد التزمت الوثيقة بتحسين سياسات الأجور بما يراعي عوامل التضخم وكلفة المعيشة والإنتاجية، وتسوية أوضاع حوالى 40 في المئة من إجمالي العاملين الذين ينشطون في القطاع غير النظامي، ويعانون عدم الاستقرار وساعات العمل الطويلة والأجور المتدنية ولا يحصلون على أي من المنافع الاجتماعية التي ترتبط بالعمل المأجور... كلام جميل لم تقرّه الحكومة «البتراء»، فإذا بها تقرّ بعد شهر واحد فقط من توقيع الوثيقة (في أيار) تصحيحاً مبتوراً للأجور بقيمة مقطوعة (200 ألف ليرة) لأول مرّة، ضاربة بعرض الحائط مصالح الأجراء الذين خسروا أكثر من 60 في المئة من قدراتهم الشرائية، ومن دون أي تدبير يحفظ حقوق العاملين في القطاع غير النظامي الذين لن يشملهم هذا التصحيح «الغبي»... ثم تعود حكومة «الإرادة الوطنية»، التي تألّفت من الموقّعين كلّهم، لتجدّد قرار الحكومة السابقة «غير الشرعية» بعد ستة أشهر من هذه الوثيقة.
- نصت الوثيقة أيضاًَ على تعميم شبكات الأمان الاجتماعي، وكتب الموقّعون بأقلامهم «أنه من غير المقبول أن يبقى أكثر من 50 في المئة من المقيمين في لبنان، وأكثر من 50 في المئة من القوى العاملة عرضة للمخاطر الصحية، في الوقت الذي يتكبّد فيه المجتمع اللبناني كلفة على الصحة هي من بين الأعلى في المقارنات العالمية، كما لا يجوز أن يبقى 75 في المئة من اللبنانيين غير مشمولين بأي ضمان لشيخوختهم، كما لا يجوز أن يبقى من هم بأمسّ الحاجة إلى الحماية من دون هذه الحماية، ولا سيما في مجالات الصحة، وتحديداً المسنّين والعاجزين عن العمل وذوي الحاجات الخاصة والأسر التي تعيلها نساء وشباب وغيرهم من الفئات المهمّشة...» ولذلك أيّدوا «بقوّة» اعتماد نظام وطني للشيخوخة ونظام تأمين صحي وطني، كما أيّدوا إنشاء تأمين للبطالة في المبدأ... وخلصوا إلى ضرورة الإسراع في اتخاذ إجراءين أساسيين:
1- إقامة نظام تأمين صحّي أساسي موحّد وشامل لجميع اللبنانيين، بإدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وبتمويل من الموازنة العامة، بعد إلغاء الاشتراكات الإلزامية في المؤسسات الصحية الرسمية وإدماجها في سياق تصحيح الأجور... فإذا بوزير الصحة المحسوب على «التنمية والتحرير» يمزّق «التوافق» ويصر على مشروع البطاقة الصحية «العجيب والغريب» والشبيه بالضمان الاختياري الفاشل، الذي راكم خسائر ضخمة، وأدّى إلى إقفال أبواب المستشفيات أمام المنتسبين إليه.
2- إقامة نظام أساسي موحّد لضمان الشيخوخة يتماشى مع آخر نص قانوني قدّم إلى المجلس النيابي (اقتراح قانون قدّمه تكتل التغيير والإصلاح)، على أن يطبّق على جميع اللبنانيين، وهو يرتكز على الرسملة الفردية مع حد أدنى محدد ومضمون من المنافع تعبيراً عن التكافل الاجتماعي، وتديره مؤسسة خاضعة للتدقيق والرقابة المالية المناسبين... فإذا بنواب «الأمّة» يتواطأون لوضع مشروع قانون يرفضه الجميع (عمال وأصحاب عمل)، ولا يؤمن أي حماية فعلية للمتقاعدين ولا لأموال النظام التي ستتراكم في عهدة سلطة لم تفقد شهيتها بعد على أكل «الأخضر واليابس» ولم ترتدع بعد عن اعتماد سياسات جائرة وغبية، ستؤدي حتماً إلى فقدان كل قيمة لهذه الأموال، ليفيق المتقاعدون بعد حين وقد ضاع جنى العمر في جيوب عصابات «الكذّابين».