لا تحقيق بدون ضربة كفّ؟ عمر نشّابة
«عالجناه»... «أكل نصيبه»... «تعبنا معو شوي» مصطلحات اتُفق على تداولها بين المحققين ورؤسائهم خلال المكالمات الهاتفية للإجابة عن أي سؤال يوجه إليهم عن اعترافات المستَجوبين. يبتسم الضابط آمر الفصيلة بثقة ويقول: «خلال التحقيق مع الموقوف نضغط عليه ليعترف. نهدّده بالضرب وباستخدام الكهرباء أو بحلق رأسه. لكننا في الواقع لا نستخدم أياً من هذه الأساليب». يدخل مكتبه. يجلس على كرسيه المتحرّك ثمّ يقول «لكننا نضطر أحياناً لضربه». ويبدأ شرحه المسهب: «يتعلّق أسلوب التعامل مع الموقوف بطبيعة الجريمة. فمخالفة البناء ليست كإطلاق النار أو السرقة والنشل». أما القتل والاغتصاب، فيضعهما في قعر «الرذائل الموجبة للضرب» خلال التحقيق. ويضيف: «عندما كنت في التحرّي، كنا نستخدم «البالانكو» و«الفروج»». ويؤكّد أن هذين الأسلوبين في التعذيب خلال التحقيق لا يزالان يستخدمان في عدد كبير من المفارز القضائية. ويردف «أما في المخفر، فلا يُستَعمَل إلا الضرب في أوقات معيّنة فقط».
تزيّن جدران المخفر لوحة كُتبَت عليها حقوق الموقوفين. رئيس إحدى المفارز القضائية سأل «الأخبار» مستهزئاً: «بدكن تحكوني بحقوق الإنسان؟» ثم قال «عندما أسلّم موقوفاً لأحد المحققين الذين يتحدّثون عن حقوق الانسان يستمر التحقيق ثلاثة أيام من دون أن يعترف الموقوف. أما عندما أسلمه لأحد الشبان القبضايات، فلا أنتظر أكثر من 3 ساعات ليعترف الموقوف بكل ما اقترفه».
محققو فرع المعلومات الذين يتمتعون بالكفاءة العالية في التقنيات البوليسية ينفون حصول تعذيب. ويقولون إن على كل مدعى عليه أن يثبت تعرّضه للتعذيب عبر تقرير طبيب شرعي و«نحن مستعدون للمحاسبة القضائية». ويضيف هؤلاء أن «التحقيقات التي تجري في الفرع تُسجل بواسطة كاميرات مثبتة في كل غرف التحقيق. ويمكن القضاء أن يطلع على التسجيلات».
غير أن كبار ضباط الأمن الداخلي لا ينفون وقوع أعمال عنف خلال التحقيقات، إذ لا تحقيق «من دون ضربة كفّ». ويضيف أحد القادة «قسم حقوق الانسان لا يزال بحاجة لتفعيل وتطوير». ويتابع «إن ثقافة حقوق الانسان غائبة عن معظم أفراد المديرية وضباطها. فهؤلاء أبناء المجتمع الذي يتقبل معظم أفراده تعذيب المستجوَبين، وخاصة المذنبين منهم». ويعيد الضابط الرفيع هذا الأمر إلى «عدم اقتناع معظم اللبنانيين بأن القضاء هو وحده المخوّل تحصيل الحقوق وردّ الظلم. ولهذه القناعة أسباب كثيرة، أبرزها ترسّبات الحرب الأهلية».

التعذيب العسكري

أما في الجيش، فينفي جميع الضباط الذين التقتهم «الأخبار» وقوع تعذيب خلال التحقيقات التي تجريها مديرية الاستخبارات العسكرية. غير أن منظمات حقوقية محلية ودولية كانت قد وثّقت حالات تعذيب تعرّض له موقوفو «فتح الإسلام» وموقوفون متهمون بالإعداد لاغتيال الأمين العام لحزب الله. في المقابل، يؤكّد عدد من الضباط المطلعين على سير التحقيقات في الجيش أن ما يذكر عن التعذيب عند الاستخبارات عار من الصحة. لكنهم لا ينفون أن يكون بعض أفراد «فتح الإسلام» الذين أوقِفوا في الشمال قد تعرضوا لـ«الضرب الشديد» على أيدي «بعض العسكريين الذين استشهد رفاقهم أمام أعينهم». ضابط استخبارات قال لـ«الأخبار» تعليقاً على ما تورده منظمات حقوق الانسان: «مندوبو الصليب الأحمر الدولي يترددون باستمرار إلى مراكز الاحتجاز التابعة للجيش بشكل مفاجئ ويعاينون السجناء». وكزملائهم في فرع المعلومات، يطالب ضباط الجيش كل متضرر بطلب تقرير طبي والتقدم بادعاء أمام القضاء مبدين استعدادهم للمساءلة القضائية والمسلكية.

الطب الشرعي المريض

«اتخن طبيب شرعي بـ200 دولار» يهمس أحد القضاة أثناء تحدّثه عن تقارير الاطباء الشرعيين. ويؤكد عدد من المحامين والضباط صحّة ما ذكره القاضي. على أي حال، إن مصلحة الطب الشرعي في وزارة العدل تعيّن الأطباء بدون التأكد من حيازتهم شهادة جامعية في الطبّ الشرعي. وأغلب الاطباء الحائزين شهادة متخصصة في الطب الشرعي لم يطوّروا معرفته المهنية عبر مشاركتهم بمؤتمرات تعرض تطوّر هذا المجال علمياً.

محكمة التعذيب

في إحدى المحاكمات طرح القاضي الجالس على قوس المحكمة سؤاله الأول على الموقوف الماثل أمامه. «هل تؤيد إفادتيك الأولية والاستنطاقية؟» أجاب الموقوف: كلا. سأله القاضي عن السبب فأجاب: «أُخذت إفادتي تحت التعذيب». يعاجله القاضي: «هذا في التحقيق الأولي. لكن عند قاضي التحقيق لا يوجد تعذيب!». القاضي مقتنع بأن المحققين يستخدمون التعذيب والضرب للحصول على اعترافات موقوفين. فهو قال لـ«الأخبار» إنه لا يأخذ بالتحقيقات الأولية إلا إذا كانت مطابقة للإفادة التي يدلي بها المدعى عليه أمام قاضي التحقيق، «إذ يستحيل أن يحصل تعذيب أمام القاضي».
لكن كان لقاض آخر قابلته «الأخبار» موقف مغاير لموقف زميله، فهو يرى أن المحققين «مضطرّون أحياناً لانتزاع اعتراف بالضرب، وخاصة عندما تكون لديهم أدلة وشهادات على اقتراف الموقوف للجريمة لكنه يرفض الإقرار، فلا يبقى أمامهم سوى الضرب» وبعد لحظات من الصمت أضاف: «كفين ما بضروا حدا». لبعض زملائه رأي آخر. فأحدهم، عندما تقدّم محامي موقوف مصري بادعاء ضد رجل شرطة عذبه لانتزاع اعتراف منه، أصدر حكماً أدان فيه رجلَ الأمن وحكم عليه بالحبس والغرامة (القاضي المنفرد الجزائي هاني عبد المنعم الحجار). كذلك فإن عدداً من المحاكم أبطل التحقيقات الأولية بعد إثبات حصول تعذيب، كما حصل في القضية التي أصدرت محكمة الجنايات في جبل لبنان برئاسة القاضي فوزي أدهم حكماً بشأنها يوم 5 كانون الأول 2007. الاحكام المشابهة لهذين الحكمين نادرة ليس بسبب تجاهل القضاة بل لقلة شكاوى المحامين عند تعرّض موكليهم للتعذيب.


الفرّوج يفوز بالأفضلية