كامل جابرعندما تهل نسائم «التشرينين»، تنهمك رقية رضا مكي من قرية رومين (النبطية) في ممارسة حرفتها المفضلة: صناعة «كوانين» الطين (مناقل). صناعة كانت تحترفها معظم سيدات البيوت الجنوبيات قبل سيادة «كوانين» الحديد. وكان التقليد يقوم على تحضير المواقد الطينية المختلفة الأحجام والاستخدام قبل حلول فصل المطر. فالغاية منها أن تكون مواقد للفحم والحطب والطبخ داخل البيوت. ولا يحتاج تصنيعها إلى أية تكلفة مادية، إذ إن موادها تتألف من التراب الأبيض والماء والتبن. وتقول رقية: «يأتي لي شقيقي بالتراب، أغربله وأنخله وأبلله بالماء ثم أجبله بالتبن، وأرقّقه على قوالب تعطي الشكل المطلوب، ثم أضعها تحت الشمس حتى تجف».
رقية التي أتقنت الحرفة منذ صباها، تقول: «كنت في بداية الأمر أصنع ما أحتاج إليه في المنزل، غير مستعينة بأي قالب؛ ثم بدأت أصنع للجيران وكل من يطلب مني، حتى أصبحت مهنتي، وخصوصاً بعد رواج استعمال الكانون الصغير من الشبان للنراجيل».
ولأن الناس راحت تبتعد شيئاً فشيئاً عن تصنيع الحرف التراثية، صارت المواقد الطينية تستخدم للزينة والعرض أكثر منها للتدفئة.
يتذكر عبد الله علي أحمد «أبو سهيل» من قرية كفررمان كيف كانت ربات بيوت القرية يتنافسن في صناعة مواقد الطين، «كانت النساء يذهبن إلى محلة المحفرة، ويأتين بالتراب الأبيض فوق رؤوسهن، وبالتبن المتوافر. وكانت الشطارة تكمن في التفنن بصناعة الكانون، الذي سيكون محط أنظار الجيران والزوار في موسم المطر، إذ يتوسط الغرف باعثاً الدفء والحرارة».
ويشير أبو سهيل إلى أن حجم الموقد كان يختلف بين عائلة وأخرى، باختلاف عديدها ووضعها الاجتماعي. «فالعائلة الارستقراطية مثلاً، كانت تقتني ما يطلق عليه اسم الطبّاخ الأسطواني الشكل، المؤلف من طبقتين، العليا للحطب أو الفحم، مسننة من فوق وتستقيم فوقها الأواني الخاصة، بينما تساعد المسافات بين المسننات على تسرب الهواء. أما القاعدة الفاصلة عن أسفل، فتكون مثقوبة تمرر الرماد إلى أسفل حتى لا يتراكم في الطبقة العليا. وكانت هذه العائلات تشتريه في أكثر الأحيان». وكانت هناك مواقد شبيهة تستخدم في الطبخ داخل المنازل في مختلف الفصول؛ وموقد مخصص لصاج خبز المرقوق «وهي مطينة بالكامل، لها فتحة أمامية وثقوب على امتداد الدائرة تساعد على تسرب الهواء واشتعال الحطب».
يستديم عمر الكانون أو الموقد سنوات طويلة، والبعض كان يجدده في كل عام، ولأن بعض البيوت كانت تحدل سطوحها بالطين المتجدد كل خريف، «فلا ضير من تجديد الطباخ والكانون. فالطين المستخدم في حدل السطوح في «تشارين» وتلييس الجدران هو عينه طين المواقد». ولكن، وكما ماتت باقي عادات استعمال الطين، تتوقع رقية أن يلاقي «الطباخ» والكانون المصير نفسه في السنوات القليلة المقبلة، إلا إذا قرر العاملون في القطاع «إنقاذ» الحرفة وإدخالها في برامج التقاليد التي يجب المحافظة عليها.