أنسي الحاجديموقراطيّة تفوق طاقتنا
الهزيمة البنّاءة تعادل النصر. قبل أن يعلن هزيمته بدا المرشّح الرئاسي الأميركي جون ماكين، رغم بطولاته العسكريّة، أشبه بالمومياء. ولم يكن في خطبه ما يوحي احتمال تفوّقه في الذكاء والمعرفة على جورج بوش الثاني، وساعد هذا في تعزيز شعبية أوباما تعزيزاً ساحقاً.
أيّاً تكن درجة الباطنيّة في خطاب الهزيمة الذي ألقاه مرشّح الجمهوريّين وأيّاً يكن عيار التمثيل، يظلّ درساً في الترفّع والوطنيّة لجميع حكّام العالم وسياسيّيه. ومهما تكن مواقفنا من السياسة الأميركيّة نجد أنفسنا منساقين إلى الإعجاب بهذه الديموقراطيّة التي تفوق طاقة البَشَر المتخلّفين أمثالنا على الاحتمال.
ولا ننسى أن الديموقراطيّة تفسح، من حيث المبدأ، للجميع أن يتسلّموا السلطة بالتداول وأنها، في الواقع، لا تحمل إلى السلطة إلّا الصفوف الثالثة وما دون من أصحاب الكفاءة والموهبة. فأهل الصفوف الأولى، بحكم تربيتهم وطبائعهم وتطلّعاتهم، لا يجدون في السلطة السياسيّة ما يلائم مُثُلَهم أو يصون طهارتهم، ولن يكونوا فيها، على ما يعلّمنا التاريخ، سوى غرباء.
ولا ننسى ما نسيته أميركا جورج بوش: ليس هناك ديموقراطيّة واحدة للجميع.

خصام
يتخاصم اليساريّون السابقون أكثر ممّا يتخاصم اليمينيون السابقون. كلّما كبر الحلم كبرت صدمة تَبخّره. الشيوعيّون أوائل حكم السوفيات كانوا يتبادلون النبذ والقتل كما فعل رجال الثورة الفرنسية بعضهم ببعض وصولاً إلى الأوج مع روبسبيير. اليمين، ما لم يكن فاشستيّاً أو نازيّاً أو واحداً من طغاة أميركا اللاتينية أو جنوب شرق آسيا، لا يحقد ماضيه على حاضره حقداً عميقاً لأن أحلامه صغيرة. وعندما يكبر الحلم لديه مع دكتاتور كهتلر أو موسوليني أو نابوليون والإسكندر، تتقدّم النزعة العسكريّة فيه المَيْلَ الفكري التغييري وتأخذ الحرب محلّ الثورة. إننا نُبسّط كثيراً، لكن المراد معروف. ستالين نفسه، رغم وحشيّة طغيانه، لم يستطع أن يغفل تماماً الدعوة الثوريّة خلال حكمه، فأولى قضية اللغات، مثلاً، اهتماماً خاصّاً، فضلاً عن «ملاحقته» لخصومه من الشيوعيين الذين أضحوا في نظره خَوَنة كما أضحى هو في نظرهم شيوعياً سابقاً ومغتصباً.
يخرج اليسار من الكتب أي من مبالغة الأفكار ويخرج اليمين من تناسل الواقع الطبيعي أي من استقرار الأشياء. وعندما تُداخله العقائد القصوى كما حصل مع النازيّة يصبح الحلم كابوساً والتطرّف جنوناً ويزدادان كابوسيّةً وجنوناً كلّما ازداد طابعهما «الطارئ»، فالطوارئ مستعجلة.
يعيّر اليساري زميله بأنه خان. وقد يُعيّره «الخائن» بأنّه محنَّط أو غوغائي. النغمة في شهرتها فرنسيّة، مما لا ينفي وجود مثيلاتها في كل مكان، وأحياناً مغمّسة بالدم. التخوين العقائدي الأهلي أشدّ تجريماً وأفظع عقاباً من تخوين الزنا. انحرافات الفكر أدهى من ارتكابات الجسد.
في نقمة «الرفيق» على رفيقه المنشقّ شعور بازدياد وحدته من حوله، فالمنضوون والملتزمون ليسوا رفاق درب عقائدي فحسب بل هم رفاق تضامن ضدّ استفراد الوحدة أيضاً، تضامن في وجه ما لا يصرفهم عن مشاكل الذات.
كلمة من وحي سجال حالي سبقته سجالات. ملاحظة أيضاً: اليمين لمّاع، خصوصاً في بلادنا، إذا تخاصم أهليّاً أدارها فصاحة وتنكيتاً، وغايته السَمَر أكثر من التبشير أو الادّعاء العام. وإذا دارت بين يمين ويسار لم يفهم طرف على طرف شيئاً. واليسار قلّما يعبأ بالألمعيّة التقليديّة، إلّا إذا كانت في أصول نشأة صاحبه. يتميّز الجدل اليساري بالاستشهادات وإيلاء اهتمام شديد للمثقف الذي قد يقرأ، ويتميّز بعنف التعيير والتشهير، كما لو كان بين راهب راهب وراهب تنكّر للنذور. وغالباً ما ينشأ من سجال يساريين منهج أو فلسفة أو حزب يساري (أو شبه يساري) جديد.
بعض الحكمة في هذا سخرية الزمن. يدور كطاحون في الهواء لا على الأرض. الاستقرار فكرة نظريّة لا تتبلور إلّا بالموت العضوي. ربّما لذلك يتوقّف السجال يوماً. ربّما لذلك ينتهي كل شيء: حتّى يستريح الطواف.

صعود المقال
إذا لم تَحْدث ظاهرة تعيد الاعتبار إلى الأنواع الأدبيّة وتُجدّدها مؤهّلة إيّاها للانبعاث، فستنتهي الأنواع الأدبيّة.
ولن يبقى من القصّة إلّا ما يُباع، أي ما يندرج في السياق التسليعي، ولن يبقى من الشعر إلاّ فئتان: أولى لا يفهمها أحد، وثانية هي العجز عن التعبير، عجز معبّر عنه بالفشل سواء في مفهوم الشعر وفي الكتابة.
حاليّاً، أكثر ما يُقرأ في ما يُنْشر هو المقال. ومنذ عقود، على الأرجح. أعتقد أن ممّا نجحت فيه قصيدة النثر (العربيّة خصوصاً) هو تخفيف صدمة الانتقال من الأوزان إلى النثر، تمهيداً، دون قصد منها، للانتقال من عهد القصيدة إلى عهد المقال.
المقال الجديد هو النوع الذي جَمَع العديد من الصفات التي كانت موزّعة بين القصّة والحكاية والقصيدة والخطاب. لذلك تقع عليه مسؤوليّة ضخمة.
الصحافة انتهت كوسائل إخباريّة أو فوتوغرافيّة ولم يعد يميّزها إلّا المقال. صحافي المقال يجب أن يدرك مسؤوليته كفيلسوف وأديب ومؤثّر وفاعل متعة، لا كمعلّق مُمازح أو مأجور.
ستبقى الدُور تطبع كتباً فيها قصص وقصائد، إلى أن تحصل تلك الظاهرة الإحيائيّة الجذريّة، أو تواصل القصص والقصائد مسيرة لَفْظ أنفاسها. مع استثناء للرواية الاستثنائية وتلك الشعبيّة، وهذه يكمن الخطر الأكبر عليها في السينما.
مَن سيرغب في «الأدب» عندما لا يعود يَهزّ شيئاً؟ الأفضل حينذاك أن نعود إلى الصفر ونترك الأبواب مفتوحة. حين تتجوَّف الأشكال لنَدَعْها تسقط. لا نَخَفْ أن نكون مرتكبين بحقّ التجديد، التجديد لا يكون مضجراً وخاوياً كما هو حاصل. ولا يجوز أن نترك التجديد يتحكّم فينا ويبتزّنا وينحرف بحدسنا.
لا «ندعو» إلى مبايعة المقال، بئس الصحافة، بل إلى معاينة ما أمسينا عليه من تراجع الحال الأدبيّة. لا تَسْمع إلّا كلمات إبداع ومبدعين وليس من إبداع ولا مبدعين إلّا بمقدار ما في الصحراء من سراب. إذا كان حقّاً ما ندّعيه هنا من أن المقال حَلَّ في المرتبة الأولى لأنه يُقرأ، فهذا منتهى الانكفاء. لم يحصل في التاريخ مثل هذا. وعليه، فإمّا أن نرفع شأن المقال حتّى يستجمع ما له وما لسواه فتكتمل عناصر الخَلْق الأدبي فيه ويأخذ مكانه، وإمّا أن ينقلب الواقع الأدبي ويحترق وينبعث من موته. ولا يقوم بهذه المهمّة غير روّاد جدد، أو النقد، ولعلّه أفضل الباقين على قيد الحياة بين سائر الأنواع الأدبيّة.
الذين يجب أن يعرفوا يعرفون ما هو الخَلْق. وهم لا شك يلاحظون اضمحلاله. لقد خضع النشر مثل غيره من المواد الاستهلاكية والأنشطة الاجتماعية لآفة المظاهر، واغتصب الإرهاب الإعلامي عالمَ التقييم. وعوض أن تكون الكتابة الإبداعيّة، أو حتّى مجرد الكتابة الجيّدة سبيلاً إلى الانعتاق من الضحالة اليوميّة وتعاسة العبء الوجودي الخانق، صارت بدورها كابوساً يُعمّق مشاعر العجز. وصار الضجر عنوانها وتدليل الذات غايتها. وبات المضطلعون بفن التعبير أقليّة على شفا الانقراض وأشبه بجماعة سريّة تختبئ من ضياعها في محيط تُوهمه التكنولوجيا بأنه كونيّ وليس هو غير اجترار الذات النرجسيّة لنفسها، بل لظاهر جِلْدِها، في انحطاطٍ تحتقره الطبيعة ويوغل الكونُ في الابتعاد عنه تاركاً هذا الكوكب الجميل يموت من نرجسيّته.