طفلاً باع العلكة. مراهقاً افترش «صحاحير» أبو علي هرباً من بطش أبيه، لينام بعد يوم طويل من بيع الكعك باليانسون. هو النجار والدهان الذي كتب وأخرج مسرحيات ومثّل في أخرى، والمتسكّع الذي لم يساوم حتى اليوم على حرّيته وعلى... الكتابة
رنا حايك
بدأ فيصل فرحات حياته بمحاولة انتحار فاشلة. فشل كان بمثابة جسر عبر به إلى حياة جديدة.
على درابزين الكورنيش قرب مسبح السان جورج، وقف طفل في الثانية عشرة من عمره يراقب تحوّل رغوة الموج إلى ماء صافية بعد ارتطامها بالصخور، محاولاً اتخاذ قرار القفز مباشرة أو التراجع قليلاً، محدّقاً به، فأثار فيه خجلاً جعله يكمل مسيره نحو بارات الزيتونة. وعينا المرأة خلف واجهة البار الزجاجية اللتان اتسعتا بعدما التقطتا عيني طفل يراقب، من الشارع، يد الرجل الجالس بمحاذاتها وهي تمتد إلى ما بين فخذيها.
«لم تفارق عينا تلك المرأة ذاكرتي حتى اليوم. وبدا لي ذلك المشهد حياة ثانية. تلك المرأة أبعدت عني فكرة الانتحار نهائياً»، يقول فرحات.
بعد تلك اللحظة، أصبح لأصوات «هزة التخوت» معنى آخر في مخيلة الطفل، أصبح يسمعها من وراء الجدران في الحي الشعبي المكتظ، ويدرك معناها حين تعجز أمه عن صدّ أبيه ليلاً في الغرفة الوحيدة التي يتشاركها معهما هو وإخوانه الستة.
بعد تلك اللحظة، قصد الطفل سوق الخضار كعادته بعد كل «حفلة ضرب وزعبة» كان يتلقاها من أبيه، تقوقع بين صحارتين، وغفا بعدما لمح القمر، «فتبسم قليلاً، ولحس دمعته ببطئ» كما يصف حالته تلك الليلة في كتابه الذي صدر حديثا:ً «يوم بدأت الكتابة».
لطالما كان هاجس الكتابة حاضراً في حياة ذلك الطفل الشقية. فكل مقوّماتها كانت حاضرة: الفقر كان مدقعاً، والأب قاسياً وعنيفاً وبخيلاً، والتسكع كان صفة ملازمة لحياة فرحات منذ عام 1968، وتحديداً يوم عيد الاستقلال.
يومها اكتشف الوالد الذي اصطحب عائلته لمشاهدة العرض العسكري أن مهنة بيع العلكة مجدية، فأجبرهم على بيعها أيام العطلة المدرسية. وقد كلّفت إحدى تلك الجولات فيصل «ضربة وزعبة محترمين» يوم اكتشف الوالد، خلال الحسابات الدقيقة التي كان يجريها مساء لغلة أبنائه، أن صديق فيصل الذي ساعده يومها، عماد، لم يكتف بالحبة التي أعطاه إياها لقاء مساعدته، بل أخذ واحدة إضافية!
بعدها، ترك فيصل المدرسة وجاب مع أبيه خلال النهار في مختلف القرى يبيع «الكعك باليانسون»، وتنقل ليلاً بين «كرتونة» يفترشها تحت تمثال الشهداء في ساحة البرج وصحارة يتقوقع فيها في دكان أبو علي، أو بيوت أهالي أصدقائه من الجيران، إلى أن ترك البيت نهائياً بعدما اكتشف الوالد معه «بيانات» كان الحزب الشيوعي الذي تعرّف عليه المراهق حديثاً قد طلب منه توزيعها.
كان فيصل في حينها قد بدأ العمل نجاراً مع ابن عمه الذي يتردد على مقرّ الحزب الشيوعي في الأشرفية. أحب الشيوعيين، لأنه وجد أنهم «أوادم وبيساعدوا الفقرا». نام ليالي عدة في مقر الحزب، قبل أن يستأجر «تختاً» في بيت الأرملة «أم مرجان» في الأشرفية لقاء 10 ليرات شهرياً، يسدّدها من عمله في النجارة والدهان.
أحب جارته المسيحية التي كانت تمدّه بكتب جبران لتشبع نهمه المستمر إلى القراءة، والتي كانت تبوس أصحابها وأقاربها، بينما لا يجد هو «حجة» ليفوز ببوسة لأنه جارها، يلتقيها يومياً.
«الكتابة تحقّق اللحظات التي لم يعشها المرء» كما يؤمن فيصل، الذي لم ينقطع يوماً عن كتابة لحظات كثيرة لم يتسنّ له عيشها، كقصة الحب تلك، وأخرى عاشها، كانت باكورتها كتابه الصادر حديثاً، الذي يفكر اليوم باستكماله في كتابات مستقبلية، مستعيضاً بالكتابة الأدبية عن كتابة المسرح.
فبعد تردده على الحزب، قدم فيصل طلب انتساب لكنه رُفض. فهو لا يزال في الثالثة عشرة من عمره، ما جعل القيمين يرسلونه إلى «اتحاد الشباب الديموقراطي». هناك، انخرط في النشاطات المسرحية.
تلقى دورة مع رفاقه في «الاتحاد» على يد جلال خوري. لكنه، على عكسهم، لم يودّعه مع نهاية الدورة، بل بقي معه: ممثلاً في «سوق الفعالة»، كاتباً اقتبس إحدى مسرحياته «معو حق ابني» التي أخرجها وعرضها في بيروت في فترات وقف إطلاق النار خلال الحرب الأهلية، و.. ساعياً نجيباً أذهل خوري بمعرفته جميع العناوين في المدينة وخارجها. «كانت معرفتي للعناوين التي يرسلني إليها تذهله» كما يقول فرحات، الذي حفظ جميع طرق المدينة والجبل كشرايين يده لشدة ما تسكّع فيها بائعاً متجولاً...
لكن الحرب سرعان ما فصلت بين شرقية علق فيها جلال خوري، وغربية لازمها فرحات. لم يترك هذا الرجل مهنة إلا ومارسها.. وبيده كتاب لم يسقط يوماً. عمل «موديلاً» لطلاب معهد الفنون، يسمّر عينيه على كتاب يمسكه بيديه ويجمد دون حراك أمام «معظم رسامي البلد المشهورين اليوم، اللي تعلموا فيي» كما يقول ضاحكاً.
وزع مجلة «الأخبار» عام 1976 وعمل في إيصال موادها إلى المطبعة وفي تقديم الشاي والقهوة في مكاتبها. حتى الطبخ، لم يسلم منه.. فقد كان يطبخ لرفاقه. يسمي ذلك «الشحذ بلباقة»: يعطونه المال اللازم لشراء الحاجيات، يتبضّع ويطبخ ويأكل معهم. أما حين تتوافر في يديه السيولة، فقد كان يهديهم الكتب.
وحين سافر إلى الولايات المتحدة عام 1983 للالتحاق بصديقته الأميركية، عمل هناك عتالاً ونادلاً في المطاعم. هناك حيث كتب مسرحية «شالوم أم مصطفى» ولم يحظ بمنتج لها. فحتى «اللجنة العربية اللبنانية» التي كانت تستقدم عروضاً عربية إلى هناك وتموّلها رفضت مسرحيته وطلبت منه: «عملّنا شي فولكلور!». وطبعاً رفض..
عمل فرحات في جميع المهن ولا يزال. يعيش على الرزقة: مسرحية أو ورشة دهان، بيع كتب... أي شيء، إلا الوظيفة الثابتة. فهي تحدّ من حريته «والكتابة لا تستقيم من دون حرية. ليس حرية وقت فقط، بل حرية روح أيضاً».
الكتابة، ذلك الهاجس الأول والأخير، جعلته طوال الحرب الأهلية «يدفع إيجاراً في أي شقة سكن فيها»، فهو يصون كتبه ونصوصه قبل أي شيء.
لم يعد يكتب المسرحيات. بعد رصيد بلغ 16 مسرحية لم تنتج منها سوى ست، قرر كتابة الأدب، لأن حياته القاسية المغمسة بعرق التجوال والفقر تستحق أن تروى. ولأن المسرحية «لا تلقى منتجاً إلا إذا كتبت لنجم بطل»، قرّر ألا يكتب مسرحاً بعد الآن، فالثقافة عامة أصبحت محكومة بـ«البزنس» وبرؤوس أموال المنتجين. لن يكتب فيصل فرحات بعد اليوم سوى الأدب، وباكورته الأدبية الممتعة خير دليل أن لهذا الرجل حياة تستحق أن تروى..


«العلّيقة»: مقبرة الكتابة

كان الوالد يمزق نصوص ابنه، ويرميها مع الزبالة، على شجرة علّيق محاذية لمدرسة الليسيه، يقصدها فيصل ويبكي قربها، إلى أن قرّر التحايل. فكتب على دفتر «لأن الوالد لن يمزقه. فثمنه خمسة قروش». نجحت الحيلة. لكن فرحات لم يقرّر نشر ذكريات طفولته إلا بعد وفاة والده، فرغم كل شيء «الكتابة ما لازم تؤذي وإلا بتبطّل كتابة»