كعشيقتين تتنافسان على قلب واحد، هكذا كانت الحال دائماً بين موسكو وسان بطرسبرغ. وهكذا هي حال المدينتين الروسيتين اليوم حتى بعد القيصر والغزوات والحروب والثورة الشيوعية وانهيار الاتحاد السوفياتي

عمّان ـــ أحمد الزعتري
المكان أولاً، مصيدة المشّائين المتعبين والتائهين، فلا يمكن الاستدلال على المقهى إلاّ بالصدفة. المقهى في بناءٍ حجري مطمئن إلى غياب المعدن فيه، في الدور الأول، في شارع منكو في جبل عمّان. يطل البناء على جبل الأشرفية القديم، وهو الذي يغفو في عمّان الشرقية غير عابئ بامتلاء المنطقة الغربية من المدينة بالبنايات الحديثة المعدنية والزجاجية. لا يمكن للعمّانيين الحنين إلى أماكنهم ومدينتهم، فالمدينة الحديثة لم تُقِم للجيل الجديد مقاهي ومراكز ثقافية وأماكن التقاء إلا أخيراً، بينما يتذكّر الجيل الأول من أبناء العاصمة مقاهي وسط البلد التي هُدم العديد منها، وهجر الرواد ما بقي منها. ومن الأماكن التي ظهرت في الفترة الحديثة مقهى Books @ Café الذي يُعدّ ساحة المعركة الأولى بين المحافظين والمتحررين، معركة قائمة منذ تأسيسه عام 1997، ما أدى إلى إغلاق المقهى في شهر رمضان، وذلك من جانب لجنة أمنية قضت بذلك لأن «صراصير وفئراناً تسرح في المكان»، كما أن أجواء التقبّل والتسامح في المقهى جذبت إليه أشخاصاً كانوا منبوذين في المجتمع المحافظ، ونعني هنا بالطبع المثليين من الجنسين.
لا يعترض صاحب المقهى بالشراكة مدين الجزيرة على التوصيف الذي يُطلق على «Books @ Café»، رغم أن هذا الوصف يمكن أن يتحوّل بسهولة إلى هجوم عليه وعلى المقهى، بل يبشّر بالهيبيّة الجديدة New Hippie Movement التي تتكسّر عندها الفوارق بين الديانات والأجناس والأعراق. لكن ما الذي جعل من «البوكس» (الاسم الدارج للمقهى) مكان التقاء تذوب فيه الفوارق؟ وهل تذوب هناك فعلاً؟
لا يمكن الإشارة مباشرة إلى المثليين عند الدخول إلى «البوكس»، لكن بالتأكيد أول ما سيلاحظه الزائر هو الحميمية المفتقدة في شوارع عمّان الجافة و(المتحجّبة): أيادٍ تتحسس أياديَ أخرى، كتبٌ مفتوحة بين شخصين للقراءة والمناقشة، laptop مفتوح على مدوّنة إلكترونية، أو مشروع تخرّج أو فضول لرؤية صور آخر رحلة لصديق على الـ Facebook، ستقع على رواد «التراس» في حالة تأمّل، الكنب نفسها وألوان الجدران أيضاً ستشعرك بأنك حتماً في عمّان مستقبلية: حيث لا يسأل أحدٌ الشخص الآخر: «ليش بتطلع فيي؟».
الجميع هنا غارقون بمشاغلهم وتأملاتهم. الإفطار عالمي: فلا رائحة لحمص أو فول أو فلافل، إما أن تطلب إفطار كونتننتال (بان كيك وأومليت ومربى وقهوة)، وإما أن تختار منقوشة زعتر أو جبنة (إن أردتَ ألا يغرّبك المكان). نسبة رواد «البوكس» من الأجانب عالية، إنهم يمثّلون نحو نصف الزبائن، هؤلاء الذين وجدوا فيه مكاناً للاسترخاء، حيث لا يهم إن اقترب أحدهم من فتاة بشكل «يثير الشبهات ويخدش الحياء العام». الموسيقى هنا مميزة أيضاً، فلا تسمع ضجيج «فزلكات» البوب، ولا أغاني عربية أيضاً، هنا يمكن الاستماع إلى تشيت بيكر ونورا جونز، ومساءً يمكن للضجيج أن يدور بموسيقى ليد زيبلين وديف ماثيوز باند وجيمي هندركس مع بيرة محليّة «درافت» بخمسة دنانير (7 دولارات تقريباً).
هذه الأجواء «التحررية» أثارت امتعاض أبناء المجتمع المحافظ، ولنكن أكثر دقة: ليس هناك اعتراض صريح على النوادي الليلية المفتوحة للرقص والكحول طوال الليل، لأن رواد تلك الأماكن على الأغلب هم من رجال الطبقة المتوسطة، وتحديداً من العاملين في المهن الصناعية، بينما تعلو الأصوات المعارضة إن ارتبط هذا التحرّر بالثقافة والكتب تحديداً. وخاصة أن مكتبة «البوكس» تركز على عناوين تهتم بحركة الـ New Age، التي تعدّ من محاولات إعادة إحياء الهبيّة من خلال الروحانيات كالممارسة معرفة زنّ (Zen) واليوغا والدعوة للسلام العالمي والعناية الصحية بالجسد. لكن هل نجح هذا المكان بالتحوّل فعلاً إلى مركز ثقافي كما كان الهدف من تأسيسه؟
في البداية نجح هذا التوجه من خلال استضافة معارض فنيّة وحفلات للموسيقيين الذين لم يجدوا دعماً حكومياً لأنهم، غالباً، لم يغنوا أغاني «وطنية». واستضاف المقهى أيضاً جلسات نقاشٍ تصدّرها طبيب نفسي عن قضايا جدلية كالحب قبل الزواج والتحرّش بالأطفال والإيدز. لكن تلك الفعاليات خفتت كثيراً. يبدو أن ذلك يرجع إلى صعوبة تقبّل بعض رواد البوكس لهذه النشاطات. حتى أن الكثير منهم قاطعوا المقهى عندما تنفّس المثليون أجواءه المريحة. لا يمكن ملاحظة أية نشاطات للمثليين، أو أن امتناع بعض الرواد عن الحضور سببه «لحظات راحة عابرة» عاشها رواد آخرون.
بصمات المحافظين ظهرت على السطح بعدما حصل المقهى على ترخيص لتقديم الطعام والمشروب في رمضان قبل 3 سنوات، آنذاك بدأت لجان أمنية تقوم بكبسات على المطبخ وبين الرواد... إلى أن حصل ما يخشاه الجميع، فقد أُغلق المقهى في رمضان الماضي. وذلك بعدما اقتحمت لجنة أمنية (مكوّنة من مندوبين من وزارات الصحة والعمل والسياحة إلى جانب رجال شرطة) المكان أثناء وجود السفير الدنماركي ورواد آخرين، دخل أفراد اللجنة إلى المطبخ وسجّلوا، اعتباطاً، أن فئراناً وصراصير وحشرات تسرح فيه.
التحرّش واضح، يقول مدين الجزيرة، فقد قال أحدهم لحارس الأمن «كيف تعمل في نادٍ ليلي يبيع الخمرة في رمضان؟». وفي المخالفة التي حُررت ضد المقهى جاء أن «جلسات حميمة وتبادل قبل» تجري فيه. تلقّفت المدوّنات الأردنية الخبر حتى انتبهت إليه الـ BBC وDW وجريدة «غارديان» البريطانية، وأعاد كل ذلك الجدل بشأن تغيّر المجتمع العمّاني السريع، وأعاد الاعتبار للبوكس كساحة لمعركة دائمة.
قد يكون من المبالغة اعتبار Books @ Café مركزاً ثقافياً أو حتى حقوقياً ناشطاً، فرغم فكرة مدين الجزيرة الطوباوية بأن يكون المقهى لجميع الطبقات، إلا أن المكان يزوره من يقرأ بالإنكليزية، ويحمل حاسوبه كطقس اجتماعي، ويستمعون إلى أغانٍ غير شرقيّة، ويشرفون، في الوقت نفسه على جبال عمّان الشرقية، كأنهم في مشهد من فيلم وثائقي ينتجونه عن بؤسٍ وهموم لم يختبروها في حياتهم.


إنترنت ومكتبة

يتكون مبنى Books @ Café من طابقين: الأول مكتبة ومقهى للإنترنت. معظم الكتب باللغة الإنكليزية عن الروحانيات وBest Sellers والفن والموسيقى والعمارة. ويخصص البوكس مساحة إعلانات لرواده حيث يمكنهم تعليق إعلان للبحث عن شريك في السكن، أو عرض خدمات تدريس لغات أجنبية... ويعمل أصحاب المقهى على افتتاح فرعين له في تونس والمغرب، ويفكرون أيضاً بالتوجه إلى بيروت.