إذا كنت من أصحاب السيارات، فإن رحلة واحدة في السرفيس ستجعلك تكتشف لذة العيش في بيروت، والقصد هنا أن العيش أجمل إذا كان سواك وراء المقود. استسلم للطرق والزواريب التي يختارها لك السائق، مهما كنت مستعجلاً، ثمة شيء جديد ستراه في العاصمة، لنقل إنك ستكتشف بيروت لا تعرفها. ستدرك حقيقة يعرفها كثيرون، حين تكون وراء المقود، فإن حقل الرؤية المتوافر لك محدود جداً، إنه حقل أفقي بالدرجة الأولى، تحده الطبقات الأرضية والأولى من المباني المتلاصقة والمتراكمة في مدينة اجتاحها الباطون والمباني الزجاجية. إنك ترى بيروت رمادية داكنة دائماً، مدينة الطرق فقط، بالكاد تلتقط عيناك المقاهي المتاجر ومعروضات الفيترينات.إذاً ترجّل من سيارتك، خذ إجازة من مقودك واسترح في التاكسي أو السرفيس أو الباص، وعش متعة تأمل المدينة، فستكتشف بين المباني الجديدة البشعة بعض المنازل القديمة، نعم لقد صمدت بعض هذه البيوت، وهي تتغلغل في الأحياء التي تسيطر عليها قوانين الأثرياء الجدد وأذواقهم وعاداتهم، ستعقد مقارنة بالتأكيد، ستساء من «الأذواق» الجديدة في البناء، ستتوالى في ذهنك صور خزّنتها ذاكرتك من كتب التاريخ والسياحة عن بيروت القديمة، مدينة تلاصق البحر وتطل بقرميدها عليه، ستعشر بحنين إلى فترة احتلت صفحات طويلة من كتاب سمير قصير عن «تاريخ بيروت».
إذاً هذه مدينة حفظت شيئاً من تاريخها، هذا ما سيتبادر إلى ذهنك، وعندما ينحرف السائق إلى زاروب أو شارع فرعي، انظر جيداً إلى واجهات البنايات، كأن العقود تتلاصق هنا، في الأحياء الفقيرة بنايات من الخمسينيات والستينيات، ومقاهٍ قديمة.
إلى جانب محال الأحذية، متاجر الملابس الداخلية، وفي أعلى الواجهة كتابات تردك عبارات تقرأها في متاجر القاهرة الشعبية، أو في دمشق أو عمان، شيء من البلاغة غير المتكلفة في الترويج للبضائع، وإلى جانب تلك الدعايات ستلمح من خلف الزجاج صور الفنانين والفنانات.
استسلم للسائق أينما قادك، بيروت المتنوعة ستراها وفق خارطته، وحدهم السائقون العموميون يعرفون المدينة، يعرفونها كلها، يحفظون زواريبها وحواريها، وأنت من خلالهم ستلحظ ما احتفظ به ناس تلك الشوارع، وما غيّره آخرون، وستعرف أنك لا تعرف من المدينة إلا مساحة ضيقة جداً.