التمييز بين الفتاة والصبي يبدأ منذ سن مبكرة في العائلة الشرقية المحافظة. رغم ذلك، نُفاجأ في كثير من الأحيان بضياع «الهوية الجنسية» لعدد من الأولاد، ومردّ ذلك إلى سلوكيات ذويهم والمحيطين بهم، والأولاد عندما يكبرون يواجهون وحدهم المجتمع الرافض لهم. المتخصصون يطالبون الأهل بأن يُدركوا دورهم في تكوين الهوية الجنسية للطفل، وبأن لا يستهينوا بممارسات تُعَدُّ أحياناً «ثانوية»

حلا ماضي
يرفض رأفت اللعب مع ابن خاله وسيم، أو قضاء بعض الوقت عند ابن الجيران. يصرّ على البقاء في المنزل إلى جانب شقيقتيه اللتين تكبرانه بفارق بسيط. يقلد تصرفاتهما، ويرتدي ثيابهما أحياناً، ويغضب إذا كررت أمامه «يا رأفت أنت صبي، وعليك أن تلعب مع الصبيان». نضال (8 أعوام) هي الابنة الوحيدة لوالديها. نسيت الفتاة اسمها الحقيقي لكثرة ما نادتها أمها وجدتها بـ«حسن صبي»، لأن شكلها، كما تقول جدتها، يوحي بذلك، فهي سمراء وشعرها مجعّد، ترتدي السروال دائماً، وتهرع إلى خزانة أبيها لترش العطر الخاص به.
تقول أستاذة علم النفس في الجامعة اللبنانية، الدكتورة بهاء يحيى، إن الأهل يخطئون حين يختارون للوليد اسماً يصح إطلاقه على البنت والصبي،« الولد قد خُلق بيولوجياً ذكراً أو أُنثى، فلماذا نطلق عليه اسماً ملتبساً؟»، وتلفت يحيى إلى أن الدراسات التربوية والنفسية بيّنت أن «التسمية المزدوجة» للفتاة أو الصبي لها تأثيرات سلبية على الطفل.
رأفت هو الابن الثالث بعد فتاتين، فالتعامل معه يحتاج إلى دقة ووعي لهويته ذَكَراً، فالهوية الجنسية تبدأ بالتشكل منذ سن مبكرة، أي في سن ثلاث سنوات أو ربما قبل ذلك. وإذا أخطأ الأهل فقد يقوم الطفل الذّكَر بالتعامل مع نفسه ومع الآخرين كأنه فتاة، كما هي حال رأفت الذي إذا تحدث عن نفسه يستخدم تاء التأنيث!
كان على ذوي رأفت أن يختاروا له لعباً وملابس خاصة بالذكور ليشعر بأنه مختلف عن شقيقتيه،
وأن يقوموا بمحاولة دمجه مع مجموعة من الأولاد الذكور ليلعب معهم بألعابهم، ثم يُشَجَّع ليتحدث عن نفسه بصيغة الذكورة. وفي إطار الحديث عن رأفت والذكور المشابهين له، قدمت يحيى مجموعة من الاقتراحات، منها أن يقضي الصبي وقتاً أطول مع الأب وأصدقائه ليرى الرجال ويدرك أنه يشبههم، وأن لهم دوراً في الحياة. وإذا كثر غياب الأب عن المنزل، يجد الصبي نفسه محاطاً بالنساء فقط (أمه، أخواته، صديقاتها)، لكنه إذا قضى مدةً أطول مع والده يساعده ذلك في عملية التمثّل بالوالد وتقليد تصرفاته وطريقة كلامه.
وعلى الأم، كما تقول يحيى، في حال غياب الوالد كلياً عن المنزل لأسباب عديدة، كالسفر، أو الوفاة، أن تجد شخصاً ذكراً كالخال، أو العم، أو الصديق، ليتكلّم ولو لفترة قصيرة مع الولد.
عبارة «حسن صبي» التي تُطلق على نضال «هي من العبارات الشائعة جداً لسوء الحظ، ولها تداعيات دراماتيكية» كما تشير يحيى. في هذه الحال، عندما تكبر الفتاة، تدخل مرحلة المراهقة، وفي ذهنها صورة سيئة جداً عن نفسها، فتلك التعابير السامة تبث شعوراً قوياً بالنبذ والرفض لدى الفتاة التي تراها والدتها بعيدة عن الأنوثة الرقيقة. الفتاة تبني شخصيتها من خلال نظرة أمها السلبية إليها، عبارة «أنت صبي» تربك الفتاة خلال رحلتها لبناء هويتها الأساسية، ويؤدي الانتقاد المتكرر إلى تشويه العلاقات المستقبلية بين الأم وابنتها التي ستجد صعوبات في صداقاتها مع الفتيات الأخريات، وفي علاقاتها مع الفتيان أيضاً، صعوبات تتعلق بعملية إغراء الآخر واجتذابه.
تشدد يحيى على أن الاضطرابات والانحرافات الجنسية ليست وليدة لحظة واحدة، بل نتيجة تراكمات زمنية، فأي خلل في مكوّنات الهوية الجنسية لدى الطفل ينعكس سلباً على شخصيته المستقبلية. ويقول طبيب الأطفال، الدكتور ربيع سبيتي، إن كل فرد يكوِّن هويته الجنسية من خلال عناصر أساسية هي: الجنس البيولوجي، الذي يتحدد بواسطة الجينات الوراثية والهرمونات حين يحدث تلاؤم بين الجينات الموروثة والهرمونات، فينجم عنها جنس بيولوجي ذكر أو أنثى. وفي حال عدم الملاءمة، يظهر جنس غير واضح، أي إنه ليس ذكراً ولا أنثى.
وهناك النوع الاجتماعي أو الهوية الجندرية، وهي النظرة الموضوعية لدى الذات بتعريفها هل هي رجل أم امرأة؟ هل هي صاحبة صفات رجولية أم أنثوية؟
وعموماً، هناك تلاؤم بين الجنس البيولوجي والنوع الاجتماعي، إلا أنه في حالات معينة «هناك تنافر بين الجنس البيولوجي والنوع الاجتماعي». العنصر الثالث يتعلق بالدور الاجتماعي أو نظرة المجتمع إلى الذات وتحديد تصرفها وسلوكها، مظهرها ودورها فيه، والميل الجنسي الذي يعني الانجذاب الجنسي الأساسي والفطري عند المرء (الغريزة الجنسية والعاطفة الحسيّة) وأخيراً السلوك الجنسي، أي العلاقات الجنسية التي تفضّلها الذات وتمارسها مع الآخر، حيث يختلف السلوك الجنسي من فرد إلى آخر. ويكون التعبير عن تلك الهوية من خلال أفكار، وخيالات، ورغبات، ومعتقدات، ومواقف، وتصرفات، وممارسات، وأدوار وعلاقات.


كتابات ومراجع

ذكر علماء التربية والاجتماع في الموسوعة البريطانية أن «الهوية الجنسية للطفل» تطابق الخصائص العضوية، ولكن هذه الأخيرة ليست ثابتة بالولادة (ذكر أو أنثى)، بل تؤثر فيها العوامل النفسية والاجتماعية، وهي تتغير وتتوسع بتأثير العوامل الاجتماعية كلما نما الطفل. في فرنسا لاقى كتاب «la sexualite» للمعالج النفسي ميشيل روييه نجاحاً كبيراً. ففيه يعطي الكاتب نصائح ترشد الأهل إلى كيفية التحدث مع أولادهم عن الأمور الجنسية. ويشرح روييه بالتفاصيل كيف تتكون الهوية الجنسية للفرد. ومن الكتب التي يجدر الاطّلاع عليها أيضاً، كتاب «Nos enfants ont aussi un sexe» الذي كتبته المعالجة النفسية وطبيبة الأطفال الفرنسية ستيفان كليرجيه. هذا الكتاب صدر في عدد كبير من الطبعات، وفيه أهم الشروح والإرشادات للأهل