محمد سيد رصاص*في 25 تموز 2000، مع فشل مؤتمر كامب دافيد بين كلينتون وباراك وعرفات، انتهت مرحلة «عملية التسوية» التي كانت قد بدأت في 30 تشرين الأول 1991مع مؤتمر مدريد، ما أشَار إلى إسدال الستارة على فصل شرق أوسطي وبداية آخر جديد، كانت انتفاضةُ الأقصى في 28 أيلول2000 أولَ إرهاصاته، ثم انتخاب شارون في 6 شباط 2001 بعد أسبوعين من دخول بوش الابن البيت الأبيض. كانت أولى خصائص ذلك الفصل الشرق أوسطي الجديد هي إدارة ظهر الأطراف الثلاثة (الأميركي والإسرائيلي والفلسطيني) لعملية التسوية، وبحثها عن خلق حقائق جديدة على الأرض عبر الوسائل الخاصة بكل طرف: الانتفاضة بالنسبة إلى الفلسطيني، وتغيير الوقائع الجغرافية بالضفة من خلال الاستيطان وتلك الجغرافية والديموغرافية بالقدس، وتدمير بنية السلطة الفلسطينية ومؤسساتها عند الإسرائيلي، أما الأميركي فعبر إعادة صياغة الشرق الأوسط.
وقد جاءت أحداث 11أيلول لكي تُعطي دفعاً جذرياً باتجاه السماح للأميركي بأن يأخذ الأمور نحو مجرياتها القصوى، من خلال وجوده العسكري المباشر في قلب المنطقة بالعراق، بعد فاصل أفغاني قصير، لإعادة صياغة مجمل أوضاع المنطقة الأمنية والاقتصادية والثقافية والسياسية عبر «البوابة العراقية»، بخلاف ما كانت تراه إدارتا بوش الأب وكلينتون من أن «التسوية» هي المدخل لترتيب النفوذ الأميركي وتفرّده بالمنطقة، ومع الحفاظ على الأنظمة والبنى القائمة التي تقبل وتدخل في «التسوية».
عبر هذا المشهد الشرق أوسطي الجديد، الذي جعل بلاد الرافدين مفتاح تطورات المنطقة، أخذ شارون حريته في التعامل مع الفلسطينيين حتى الوصول إلى حدود قلب وتدمير كل ما أنتجته «أوسلو». واشتعلت بلاد الأرز منذ القرار 1559 (2 أيلول 2004) نتيجة التصادم الأميركي ــ السوري بشأن العراق المحتل، ما أشار إلى نهاية التوافق السوري ــ الأميركي في لبنان، الذي بدأ في 13 تشرين الأول 1990 في نتيجة للتفاهمات بين دمشق وواشنطن حيال الغزو العراقي للكويت وما قاد إليه ذلك من اشتعال داخلي لبناني استمر حتى اتفاق الدوحة الذي أُعلن بعد ساعات من توقيعه، بدء مفاوضات غير مباشرة إسرائيلية ــ سورية بشأن الجولان في إسطنبول بموافقة أميركية ضمنية، بعدما كانت إدارة بوش معرقلة عملية بدء تلك المفاوضات واستئنافها إثر فشل قمة جنيف بين الرئيسين السوري والأميركي في 25 آذار 2000.
ولا يمكن عزل الصراع الإيراني ـــــ الأميركي، الذي بدأ منذ 6 آب 2005، عن تطورات أرض الرافدين، التي ما كان يمكن إيران أن تعلن من طرف واحد استئناف برنامج التخصيب النووي لولا وقائع تزلزل الأرض العراقية تحت أقدام الأميركي، ما أتاح المجال لطهران ــ التي نمت قوتها الإقليمية كثيراً من خلال اكتسابها لنفوذ محلي ضخم في «العراق الجديد» ــ لكي تفرض حقائق على الأرض قد تجبر الأميركي على الاعتراف بها كـ«القوة الإقليمية الكبرى»، وخاصة مع عوامل التأثير والقوة التي لديها، الممتدة بين بلاد الأفغان والشاطئ الشرقي للبحر المتوسط.
هنا، قاد الصراع بين واشنطن وطهران، دمشق إلى اشتعال الشرق الأوسط بأكمله، وإلى انقسام داخل البؤرتين المشتعلتين في لبنان وفلسطين في ضوء صراع هذين المحورين، فيما لم تشهد بؤرتا العراق وأفغانستان انقسامات مماثلة ليكون الوضع فيهما أكثر تشابكاً وتعقيداً من خلال كون أطراف رئيسية فيهما موزعة الولاء بين واشنطن وطهران (حزب الدعوة وآل الحكيم في العراق، وحزب الوحدة الإسلامية الأفغاني) أو لوجود أطراف فاعلة تعادي الطرفين (غالبية قوى المقاومة العراقية، وحركة طالبان)، كذلك فإن دولاً رئيسية في المنطقة مثل السعودية ومصر لم تكن بمنأى عن اصطفافات تحددت على وقع صراع هذين المحورين.
في صيف 2008، توضّح مأزق السياسة الأميركية بالشرق الأوسط، وأنها قد فقدت قوة اندفاعها البادئة مع سقوط بغداد عام 2003، ولم تعد قادرة على إحراز مكاسب كما جرى في لبنان بربيع 2005 لمّا تلاقت الرياح الدولية مع قوى داخلية لبنانية معادية للوجود السوري، حيث كان تغير توازنات الوضع اللبناني عبر اتفاق الدوحة، وقبله الفلسطيني مع انقلاب «حماس» في غزة، إشارة إلى انقلاب اللوحة الإقليمية التي كانت توازناتها تميل لمصلحة واشنطن في فترة 2003 ــ 2006حتى بداية حرب 12 تموز 2006 التي كانت نتائجها غير المواتية للأميركيين بداية لذلك الانقلاب.
هذا المأزق يشير إلى فشل الاستراتيجية التي وضعها بوش الابن، مع غزو العراق، لـ«إعادة صياغة الشرق الأوسط»، وإلى عدم الإمكان لإعطائها دفعاً جديداً أو قوة للاستمرارية من قبله أو ممن سيخلفه، بعكس ما كانت عليه الأمور في الشهر الأخير من عام 2006 لما اقترح تقرير «بيكر ــ هاميلتون» استراتيجية أميركية جديدة تعتمد على الاعتراف والتعاون مع القوى الإقليمية القائمة، في طهران ودمشق، من أجل إمرار السياسة الأميركية، حيث كان إصرار بوش الابن على تجاهل توصيات ذلك التقرير إشارة إلى محاولته إعطاء استراتيجيته القديمة قوة دفع واستمرارية، ولو عبر تعديلها من خلال سياسة «معتدلين ضد متطرفين»، ليتضح من خلال عامي 2007 و 2008 ارتطام سياسة البيت الأبيض بالحائط في منطقة الشرق الأوسط وعدم القدرة على إمرار سياساته.
الآن، بعد صيف 2008، بكل ما شهده من تزحزح «ما» عن توازنات ما بعد 1989 العالمية من خلال محطتي جورجيا والأزمة المالية ــ الاقتصادية الأميركية، لم تعد واشنطن قادرة على الاستمرار في محاولة دفع استراتيجيتها الشرق أوسطية، وإن عبر تعديلات، وهو ما سيفرض على الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما سياسة جديدة في المنطقة، على الأرجح سيكون فيها الكثير من محتويات تقرير بيكر ــ هاميلتون، ما سيشير إلى انتهاء فصل شرق أوسطي عاصف استغرق ثمانية أعوام، وإلى بداية أخرى من المرجح أن يكون فيها، إضافة إلى إعادة اعتراف واشنطن بقوى إقليمية محددة صادمتها بالسنوات القليلة الماضية، إعادة تعويم أميركي للدور الإسرائيلي، بعد سياسة مغايرة من واشنطن بدأت مع مجيئها العسكري المباشر للمنطقة مع حرب1991، ربما كانت إحدى إشاراته الراهنة هي الاتجاه (عند دوائر رسم السياسات الاستراتيجية الإسرائيلية) إلى تكنيس أولمرت وعرقلة صعود ليفني «الضعيفة» لمصلحة إصعاد نتنياهو، وكذلك شيء مماثل من واشنطن نحو تعويم الدور التركي.
* كاتب سوري