ما الذي يدقع المراهقات إلى الكذب؟ ولماذا يسود الاعتقاد بأن الفتيات يلجأن إليه أكثر من الشبان؟ نطرح عادة هذين السؤالين ونتناسى أن الكذب ليس من صفات المراهقات فقط، بل هو آفة اجتماعية، وأن ممارسته تبدأ منذ سن الطفولة، وقد نعتاد الكذب لأسباب تافهة، أي إنه يتحوّل إلى إدمان، تماماً كما هي حال اللصوص الذين يدمنون السرقة... إنه إدمان يهرب البعض إليه لأن الأهل عاجزون عن تفهمهم

جانا رحال
تعترف فرح (16 سنة) التي طلبت عدم ذكر عائلتها، بأنها تكذب على أهلها كثيراً، وتكذب أحياناً على أصدقائها حين تشعر بأنها مجبرة على ذلك، «أهلي لا يتفهمونني كثيراً، ولا يسمحون لي بالخروج مع رفاقي كما تفعل سائر الفتيات، بالطبع لا أستطيع مواعدة الشباب، لذلك أضطر إلى اللجوء إلى الكذب». وتكمل فرح أنها تحتار في بعض الأحيان في اختيار الكذبة الملائمة، ولكنها غالباً ما تدّعي أنها تدرس عند رفيقتها، وتؤكد أنها «تكذب في ما يخص الأمور الصغيرة وأنها تعرف حدودها مع الشباب ولا تقوم بأعمال سيئة»، أما رولا ح. (18 سنة) فهي تكذب على أهلها ومن حولها «في أمور الحفلات والسهر، لأنني أعرف أنهم لن يقبلوا بذلك، وأحياناً أنتظر حتى ينام أهلي وأخرج من المنزل لأعود إليه قبل موعد استيقاظهم». تعتقد رولا أن «الجميع يكذب، وأهلي عندما كانوا في مثل سنّي كانوا يكذبون»، وتختم وهي تضحك «بكرا عندما أكبر لن أكذب».
غادة رمضان (17 سنة) ترى أن الكذب أمر طبيعي جداً، بل لا داعي لقول الحقيقة للأهل «لأنهم يريدون معرفة كل صغيرة وكبيرة، ولا يحترمون خصوصياتنا، ثمة أشخاص يجبرونك على الكذب، وإلا تقع مشاكل نحن في غنى عنها». والدا غادة يغضبان إذا رسبت في مادة ما في المدرسة «وهذا أمر مستحيل، لذلك أكذب عليهم ولا أريهم دفتر العلامات».
يعّرف المعالج النفسي الدكتور عباس مكي الكذب «بأنه عدم قول الحقيقة، وكل من يجد نفسه في ورطة يتجنب قول الحقيقة»، ويؤكد مكي أن «الناس إجمالاً تكذب، فالكبير يكذب في التجارة والعلاقات مع الآخرين، والأزواج يكذب بعضهم على بعض، وكذلك الامر بالنسبة إلى الأطفال والمراهقين». ولا يعتقد مكي أن المراهقات يكذبن أكثر من المراهقين الفتيان «إلا إذا ثبت ذلك في إحصائيات معينة».
لماذا يسود انطباع عن ارتفاع نسبة الكذب لدى المراهقات؟ يقول المعالج النفسي إن السبب يعود «إلى أن الواقع يجعلنا نرى ذلك، فالمراهقة تضطر إلى الكذب لأن الوضع الاجتماعي يحاصرها أكثر»، ويضيف أن «المراهق يكذب أكثر لأنه يتمتع بمساحة كبيرة من الحرية، وخصوصاً في أمور الحب، فهو يكذب ليحصل على عدد أكبر من الفتيات».
تلوم كاتيا (18 سنة) المجتمع والأهل «الذين يجبرونها على استخدام الكذب وسيلة للدفاع عن نفسها والهروب من مأزق ما»، وتقول: «لقد اعتدنا على عدم قول الحقيقة، ولكن رغم ذلك لسنا قادرين دائماً على إخفاء الحقيقة، وأحياناً يجبرنا الشاب على الكذب لأنه هو يكذب دائماً».
الكذب عندنا آفة اجتماعية يمكن أن تتحول إلى مرض اجتماعي ونفسي لا يشعر به صاحبه، ويلجأ إليه دون وعي، ودون إدراك للأخطار التي يسببها، فرنا (18 سنة) لا تعرف لماذا تكذب «أجد نفسي أكذب، حتى وإن تعلق الأمر بالأشياء البسيطة، وأشعر دائماً بأن الآخرين يتلهفون كي أقع في خطأ ما، لذلك أفضّل الكذب». أما مريم (17 سنة) فتميل إلى المبالغة والتهويل في كل شيء «أحب أن أضيف بعض القصص، لا أعرف لماذا لكنني أجد نفسي أخترع الأقاويل والأحداث المضحكة غالباً».
يؤكد مكي أن الكذب يصبح مرضاً نفسياً مثله مثل السرقة التي تتحوّل إلى إدمان وبالتالي إلى مرض نفسي. إن السرقة تخفي كذباً لأنها تحتّم عملية إنكار لفعل وقع بالفعل، فالسرقة تصبح فعلاً لاإرادياً لإرضاء الذات فقط وليس بهدف الغنى، تماماً كالكذب. فالإنسان يكذب بلا داعٍ، وهنا يذكر مكي حالة فتاة اعترفت أمام صديقها بشيء لم تفعله، وذلك خوفاً من أن يقرأ أفكارها ورغباتها فيهجرها «لقد كذبت على نفسها وعليه، وهذا نوع من المرض». ويشدد مكي على أن الكذب ناتج من عدم تقدير الذات.
لينا (16 سنة) تكذب على أهلها رغم أنها تدرك أنهم يعرفون الحقيقة «ولكن لا يفعلون شيئاً حيال ذلك، يقسون عليّ وأنا أكذب في أمور تُكشف ببساطة، ولكن لا أعرف لماذا لا يلومونني أو يوبخونني». إن الأهل يلعبون دوراً بارزاً في عملية ترسيخ ممارسة الكذب عند المراهقين، وتبدأ هذه العملية منذ مرحلة الطفولة، ويشير مكي إلى «أن الأهل في هذه الحالة لا يدركون خطورة الكذب، ولكن الأخطر يكمن في كذب الأهل بعضهم على الآخر، فيما يكتشف الأولاد الأمر، وأحياناً يكذب الأهل على الأولاد بمسائل بسيطة ما، يسبب مشاكل كثيرة، حيث تهتز صورة الأهل عند الأولاد، وتتضاءل الثقة بينهما».


الحق على الأهل

تؤكد المعالجة النفسية ريتا ماضي كرم أن كذب المراهقين لا مفر منه «ولكن نسبة الكذب هي التي تختلف بين مراهق وآخر، والأهل هم الذين يحددون هذه النسبة من خلال أساليبهم المعتمدة في تربية أولادهم التي تؤثر في بناء شخصيتهم وترسم ملامح مراهقتهم». تضيف كرم أن «ثقافة الأهل تؤثر في تربية الطفل، وفي مدى لجوء المراهق إلى الكذب»، وترى أن هذه الآفة غير مرتبطة بفارق السن بين الأهل والأولاد، بل تعود إلى الأسلوب المعتمد في الأسرة للتفاهم بينهما» مؤكدة «أن الحوار والتربية الصحيحة هما الحل الوحيد للتخلص من هذه المشكلة».
من جهة ثانية، يجدر التوقف عند كتاب «Psychologie du menteur» لكلودين بيلان، وهو عبارة عن دراسة ترتكز بدورها على عشرات الدراسات واللقاءات مع آلاف الأشخاص الذين تحدثوا عن كيفية لجوئهم إلى الكذب