فادية حطيطكثيرة هي الأمور المدهشة في أميركا. أذكر من زيارتي لها كيف أنني كنت ألتقي في القطارات أناساً يناضلون من أجل قضية ما، يحملون بياناً أو لافتة ويخاطبون الجمهور. يدعون للتدين، أو منع الإجهاض أو للحشمة ومواضيع أخرى مما قد نعتبره من الأمور التي «أصبحت وراءنا»، ولم يعد من داعٍ للتكلم فيها. مثلاً ضرب الأطفال، أنت تظن أنه لا يعقل أن يجري التفكير في إمكان جواز هذا الفعل في زمن حقوق الطفل، ولكنك تجد هناك من يعيد النظر به ومن باب حقوق الطفل نفسها. في أميركا ليس من أمر يصبح «وراء»، كل شيء قابل للمراجعة، كل شيء قابل للنقاش، وثمة مقاربات متجددة ومتغيرة دائماً.
لم أعد أذكر مضمون خطاب بوش يوم ألقاه بمناسبة انتخابه رئيساً، ولكني أذكر أني اهتممت بلغة الخطاب. لغة قريبة وسهلة ومباشرة وقابلة للتناول من جانب الكبار والصغار. وبالأمس حين استمعت إلى خطاب أوباما أيضاً، كان لديّ الانطباع نفسه. يمكن للشعب الأميركي كله بصغاره وشبابه وكهوله وشيوخه أن يستمعوا إلى خطاب أوباما، وكل منهم سوف يجد فيه شيئاً يثير اهتمامه. وأعتقد أن العامل الأساسي في طراوة الخطاب هو أنه احتوى على قصص. قصة دعم أوباما للوصول إلى الرئاسة، وقصة الحلم، وقصة السيدة ذات المئة والستة أعوام. واعتماد الخطاب على القصص يجعل الناس موجودين بقوة في ذهن كل من المخاطب والجمهور. نقرأ في الخطاب عبارات مثل «الشباب الذين تحدّوا البرد القارس والحر اللاهب وقرعوا أبواب أناس غرباء تماماً» و«هناك أمهات وآباء سيبقون مستيقظين بعد أن ينام أطفالهم، ويفكرون كيف سيدفعون الرهن العقاري، أو فواتير الأطباء، أو توفير ما يكفي من المال للجامعة» و«لجميع من يشاهدون الليلة بعيداً من سواحلنا من البرلمانات والقصور أو من يجلسون قرب أجهزة الراديو في الزوايا المنسية من عالمنا، أقول إن قصصنا منفردة لكن مصيرنا مشترك، وقد بزغ فجر جديد في القيادة الأميركية».
إضافة إلى الأسلوب القصصي في خطاب الرئيس الأميركي هناك اللغة نفسها، التي لفرط استخدامها وتهذيبها وتعميمها وتقريبها من العيش اليومي، فإن الكلام فيها يبدو طازجاً دائماً، كأنه لم ينطق به سوى لهذه المناسبة.
الأمر الثالث الذي يجعل الخطاب قريباً من فهم كل الناس، بمن فيهم الأولاد، هو أنه ينظر إلى الأمور بشمولية، فلا يدخل في زواريب السياسة الضيقة، ولا في الأمور الاقتصادية العويصة، إنه يطال اهتمامات الناس عامة. والأولوية فيه هي للناس الذين يستمعون لا للقضايا العامة.
أعرف أحدهم، يرى أن الخطاب الذي يضع الناس قبل القضايا هو خطاب أنثوي. ولأنه أنثوي فإن قيمته النظرية ضعيفة، وذلك بسبب عدم قدرة النساء على التجريد. ولكن حين ترى أن هذا الخطاب هو نفسه خطاب أقوى سلطة اليوم، تعرف أن ذلك الشخص هو ممن يظنون أن «الأمور صارت وراءهم». وهنيئاً له ذلك المجد.