strong>نوال العليما إن يلتقي غريباً حتى يسأله عن أفراد العصابة الدكروبية، «هل تعرفين فلاناً؟ ما أخبار فلانة؟ بعدها حلوة؟». رغم سنواته الثمانين، لا يستطيع محمد دكروب أن يتخلّص من رغبته في الحديث عن الأنثى ومعها. صورة سفيتلانا زوجته الروسية الجميلة الراحلة معلّقة على الجدار تؤنس وحدته، ولا تمنعه ولم تمنعه يوماً من ممارسة الغزل. الخلق الذي ورثه عن أبيه الفوّال الصوريّ، «والدي علّمني الرزالة». ويظهر أن سفيتلانا تصالحت مع «رزالة» دكروب الشقيّ، فباتت تلفت نظره إلى النساء الجميلات إن أغفل النظر إلى مؤخّراتهنّ! حالها كحال والدة دكروب «الشريفة» التي يقال إنّها من سلالة الرسول، فقد كانت معتادة هي الأخرى على الإصغاء إلى غراميات زوجها كل ليلة، ومن شابه أباه ما ظلم!
النسوان والكتب والشيوعية، مفردات حياة دكروب التي بتنا نعلم أنّه بدأها فوّالاً وبائعاً للياسمين والخبز والفلافل والترمس. كان يحمله على رأسه بائعاً جوّالاً ينادي في شوارع صور أو خمّاراتها: «أحلى من اللوز يا ترمس». فلم يكد يقضي دكروب أربعة أعوام في «المدرسة الجعفرية» حتى اضطرّ والده إلى إخراجه منها ليساعده في العمل. وعلى رغم ما يحمله اسم المدرسة الجعفرية للوهلة الأولى من دلالة طائفية، وكان مؤسسها أحد رجال الدين، إلا أن أساتذتها كانوا من المسيحيين والدروز والمسلمين شيعة وسنة، بل إن مديرها جعفر شرف الدين كان يصدر مجلة أدبية ذات طابع عربي. هذا المناخ الثقافي السائد والتنوع الغنيّ أسهما في التأسيس لبيئة متفتحة لأبناء ذلك الجيل، ومنهم محمد الذي لا تزال مسألة خروجه من المدرسة في مرحلة مبكرة جرحاً لم يندمل في حياته.
لكنّ استمرار «شيخ الصفّ»، كما كان يسمّيه أساتذته لفرط ما كان يحفظ القصص ويجيد روايتها، في الثقافة والقراءة كرّس له مكانته بين المتعلّمين والمتنوّرين. وقد عزز هذا الاندفاع غضب دكروب من مصيره ونقمته عليه، شعورٌ وطّد علاقته بالكتاب وشغله بروايات الجيب الملخّصة عن الأعمال الأدبية العالمية. مثل هذه القراءات لم ترو غليله، ولم تنجِّه من إحراج الجهل حين كان يجالس في العشية أصحابه القادمين من المدرسة على باب دكان شقيقه السنكري، حيث انتهى به المطاف بعد أعمال كثيرة تنقّل بينها. إنهم يتحدثون في الفلسفة والنقد وأمور لم يتسنّ له التعرف إليها.
هكذا كانت فترة مراهقته... صراع من أجل الفهم وملاحقة العلم، يقرأ سلسلة عبد الرحمن بدوي عن الفلاسفة، فلا يفقه منها شيئاً سوى سيرة حياتهم فيها. يبحث في كتاب «نشوء الأمم» فيقول: «أنطون سعادة نازي» محض استفزاز أرعن لصحبه القوميين السوريين وهو القومي العربي آنذاك. اتسم دكروب بصفات مشاكسة استفزازية، ربما بسبب ظروف حياته المهيأة لتجعله شيوعياً بامتياز، رغم ذلك حارب بشراسة وهاجم كل مَن كان يدعوه لأن يصير شيوعياً. كانت لماركسيته الفطرية ملامح شقاء البروليتاريا الظاهرة في كتاباته الأولى عن مدينته صور، والتي كان يدقّقها له أساتذته السابقون في الجعفرية لينشرها في جريدة «التلغراف»، حيث كان يقابل قول أصحابه المثقّفين «أنت شيوعي» باحتجاج وإنكار شديدين يصلان إلى الغضب «أعوذ بالله... أنا شيوعي؟».
اللقاء المستمر مع كريم مروّة وحسين مروّة على باب دكان السنكري بدّل طريق حياته. وبفضل حسين مروة تمكّن دكروب من الذهاب إلى بيروت للعمل في محل لبيع الورق. هناك شق طريقه في صفوف الحزب الشيوعي الذي التقى برموزه في بيت حسين مروّة وصالونه الأدبي. وحين نشر قصته الأولى «خمسة قروش» في مجلة «الطريق» (1952)، التفتت إليه الأنظار، وأوكلت إليه مهمة رئاسة تحرير مجلة «الثقافة الوطنية» الأسبوعية: «إضافة إلى مهمات التحرير والطباعة، وجدت نفسي أحمل الأعداد مع رفاقي وأنزل لبيع المجلة في الشارع». صدرت هذه المطبوعة لمدة سبع سنوات، ونشر فيها يوسف إدريس وسعيد عقل والبيّاتي والسيّاب وكاتب ياسين ومحمد الفيتوري وسعيد عقل. وحين توقفت، أُسندت إلى دكروب رئاسة تحرير مجلة «الطريق».
كان توقف مجلة «الطريق» بعد أكثر من ستين عاماً من صدورها عام 1941، انتكاسة نفسية وعاطفية بالنسبة إلى دكروب، فهي لم تكن يوماً مجرد عمل يقوم به لكسب لقمة العيش، بل مشروعاً غيّر نهج حياته، ووضع قدميه على أرض ثابتة رسّخته كقامة نقدية أدبية ذات أثر، وخصوصاً أنّه هجر كتابة القصة القصيرة، بعدما أصدر مجموعته الوحيدة «الشارع الطويل» (1954)، ظنّاً منه أنّه لن يتمكن من اللحاق بركب الحداثة، وأن قصته الكلاسيكية ستظل مقصّرة بالنظر إلى ما ينجزه الآخرون. هل ظلّت عقدة مغادرة مقاعد الدراسة تلاحق دكروب حتى في إبداعه؟ نجده يكتب النقد من خلال سيرة مَن ينقد، ونجده يلحق سيرته كظلٍ لسيرة الآخرين أو كأنّ حياته تحدث بخجل إلى جانب هؤلاء العظماء.
أما «الطريق»، فكان حاله فيها مختلفاً. كانت المدرسة التي تلقّى فيها دكروب تعليمه: «تتلمذت لأكثر من أربعين سنة على المقالات التي كانت تصل إلى المجلة، وفرحت لأن شخصاً مثلي وجد مدرسة بديلة». هكذا تفرّغ لتلك المدرسة، فأهمل كتاباته ومشروعاته الأخرى طويلاً. إنه العطش إلى المعرفة والاكتشاف. لكن حرصه على مضمون المجلة الرفيع، لم تقابله الحنكة في الحسابات المالية. كانت المجلة تصدر ما بين 5500 و6000 نسخة، والنسخ تباع بأقل من كلفتها، حتى تراكمت الديون على «الطريق» التي تنحى الحزب عن تمويلها، لتعيش سنواتها العشر الأخيرة على اشتراكات القرّاء. ولتتمتّع أيضاً بأعلى سقف لحرية التعبير، منتقدة ممارسات الحزب والفكر الماركسي. ولكن هيهات أن تدوم الحال لأمرين ما كان يمكن لهما أن يجتمعا، نعني حرية التعبير والتمويل الكريم.
في عام 1974، أصدر دكروب كتابه الأشهر «جذور السنديانة الحمراء»، وفيه يرصد التاريخ الأول للحركة الشيوعية بنفس أدبي، الشيوعية التي باتت زاد دكروب وزوّاده، جعلته ناقداً من الطراز الماركسي إن جاز التعبير، يقوم بحفريات معرفية في بنى كتابات الكثير من النهضويّين أمثال طه حسين، لينفذ إلى الروح الماركسية فيها. ألم يناد طه حسين بالعدالة الاجتماعية في كتابه «المعذّبون في الأرض»؟ وهل يجرؤ أحد سوى دكروب على القول إنّ نجيب محفوظ شيوعي أو اشتراكي؟
من حارات صور وحتى منزله في بناية الشاطئ الذهبي، حيث يعيش الآن وحيداً وقد تزوجت قرّتا عينيه ريتا ولينا، سيرة حياة لم تعط دكروب الكثير، هناك ابتسامة رضى وغبطة لا تفارقه رغم كل شيء... رغم «الطريق» المفقودة، والوحدة المتوافرة بكثرة، ومصاريف العيش المحسوبة. يعيش بمفرده مع حشد من الكتب وثلاثة أو أربعة مؤلفات مقبلة، أولها سيكون إصداره في عام 2009 كتاب عن معلمه الأول بعنوان «على هامش سيرة طه حسين». السيرة لطه... أما الهامش فللتلميذ المخلص محمد دكروب الذي سيتحدّث كيف تتلمذ على يد صاحب «الأيّام»... من دون أن يذهب إلى المدرسة.


5 تواريخ

1929
الولادة في صور
1954
أصدر مجموعته القصصية الأولى والأخيرة «الشارع الطويل»
1961
رئاسة تحرير مجلة «الطريق»
1974
كتابه «جذور السنديانة الحمراء» الذي صدر في ثلاث طبعات حتى الآن
2008
تكريمه في «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي»