strong>حسين بن حمزةمن الكتب نشأت سيرة فاروق مردم بك. بل يمكن القول إنّه كبر واكتهل بصحبة الكتب. في المدرسة الفرنسية، كان الأهم هو تلك الكتب والمجلات المعارضة لسياسة فرنسا، إضافة إلى دواوين شعراء المقاومة ومؤلفاتهم، التي كان يحصل عليها من بعض الأساتذة الفرنسيين. يتذكر أنّ أستاذ التاريخ كان يسارياً متضامناً مع القضايا العربية، خصوصاً حرب الاستقلال في الجزائر. الشاب غير المكترث بعراقة عائلته وأرستقراطيتها الدمشقية، كان قد اهتدى باكراً إلى الماركسية وصادق الشيوعيين من دون انتساب رسمي: «كنت أعرف أني أنتمي إلى عائلة عريقة، ولكنها لم تعطني الكثير. خليل مردم بك رئيس مجمع اللغة العربية، وصاحب النشيد الوطني السوري، كان ابن عم والدي، وكذلك جميل مردم الذي تولى رئاسة الحكومة السورية عام 1948. تمردتُ على تقاليد العائلة منذ الصغر. قراءاتي الأساسية كانت ماركسية. المدرسة لعبت دوراً رئيسياً في ذلك. المناخ المنفتح والعلماني في المدارس الفرنسية كان يوفر للطالب فرصة الاطلاع على ثقافة مختلفة تتعدى المنهاج المقرر».
الكتب أصابته بـ«لوثة» لن تكفّ عن مطاردته. كنا نظنّه قارئاً نهماً، فإذا بنا نكتشف أنه كتب الشعر أيضاً. في العشرين ــــ وهو طالب في كلية الحقوق ــــ نشر ديوانه الأول والأخير «قطعة شمس». نال الليسانس عام 1965 وسافر إلى باريس ليكمل دراسته، ولكن الكتب كَمنَتْ له حيثما اتجه. هكذا، ما إن حصل على الدبلوم في العلوم السياسية، حتى توقف عن متابعة الطموح التقليدي لطالب مرشح لأن يكون قانونياً مرموقاً، تاركاً للكتب أن ترسم مسار حياته كلها.
البداية من مكتبة «معهد اللغات الشرقية» القائم على ضفاف السين منذ القرن السابع عشر، حيث قضى 15 عاماً بصحبة الرائحة العتيقة والفاتنة لمجلداتٍ تناقلها أيدي عشرات الآلاف من مرتادي المكتبة وقرائها وباحثيها طوال قرون. ثم انتقل إلى «معهد العالم العربي» عام 1989 مديراً لمكتبته. وبعد ست سنوات، صار مستشاراً ثقافياً فيه، وهي الصفة التي ستسبق اسم فاروق مردم بك منذ ذاك الوقت، وسيتركها اعتباراً من الشهر المقبل حيث يدخل سن التقاعد.
إلا أن مُفتَتَنَ الكتب الأبدي يرى أنّ دوامه في المعهد ــــ رغم أهميته ــــ كان أشبه بعملٍ إضافي. ما العمل الرئيسي إذاً؟ الكتب ولا شيء آخر. تعيينه مستشاراً عام 1995 تزامن مع بداية عمله في دار «أكت سود» مشرفاً على سلسلة «عوالم عربية» التي كان إيف غونزاليس كيخانو قد أسّسها قبل عامين. عمله في دار نشر باريسية أضاف مذاقاً جديداً على علاقته بالكتب. القارئ الشغوف صار مطلوباً منه أن يكون مبعوثاً للأدب العربي في بلاد موليير.
مع أكثر من 250 عنواناً حتى اليوم، بات مستشاراً من نوع آخر: فهو يُسأل عن كل كبيرة وصغيرة في سوق الكتاب العربي، ونوعية التغيرات والتطوّرات التي تحدث فيه. يرشح الكتب الملائمة لقارئ فرنسي ذي أمزجة متعددة. يعقد صلات مباشرة وحيوية بين المؤلفين العرب ومترجميهم. إنه «ترموميتر» تُقاس به حركة النشر العربية وما يُنقل منها إلى الفرنسية، وحتى إلى لغات أوروبية أخرى، إذ كثيراً ما تكون الترجمة الفرنسية دليلاً ومعياراً لمترجمين من بلدان أوروبية أخرى. نسأله عن صدى تلك الترجمات. لماذا لم يحقق الأدب العربي طفرة كالتي كانت لأدب أميركا اللاتينية مثلاً؟ «هناك صدى حقيقي وملموس لما نترجمه. ما ينقصنا هو التراكم. لا تنسَ أن نقل أدب أميركا اللاتينية إلى الفرنسية بدأ منذ الأربعينيات، ولكن الشهرة الفعلية حدثت مع ترجمة «مئة عام من العزلة» لماركيز في نهاية الستينيات. ليس لدى العرب ماركيز، لكن هناك أعمال حققت رواجاً لافتاً».
النشر لن يكون الجبهة الوحيدة التي سيمارس فيها فاروق مردم بك عمله عرّاباً للكتاب العربي بالفرنسية. الشاب اليساري والماركسي الذي جاء إلى باريس لإكمال دراسته الجامعية، كان ينتظره حدثان مفصليان حدّدا مسار وعيه ونشاطه. الأول هزيمة حزيران 1967 والثاني هو الثورة الطلابية 1968: «كان حزيران لحظة رهيبة. أن تكون صاحب حق وأن تُهزم، وتحس أنك أقلية مضطهدة وتواجه عداءً عنصرياً من الرأي العام الفرنسي. أتذكر وقتها أننا أسسنا لجنة من الطلاب العرب. وكان هناك أصدقاء مقربون: سعد الله ونوس وعمر أميرلاي وياسين الحافظ. عشتُ مع سعد الله بدايات كتابته لمسرحية «حفلة سمر من أجل 5 حزيران». ثم جاءت الثورة الطلابية بعد سنة. بسبب هذين الحدثين، بقيت على خطي السياسي ولم أبدله أبداً». الأمر الأهم في تلك التجربة أنّ حرب 67 جعلت القضية الفلسطينية أولوية في حياة مردم بك. ولهذا لن يكون غريباً أن يكون اسمه «السوري» موجوداً في هيئة تحرير العدد الأول من «مجلة الدراسات الفلسطينية» في نسختها الفرنسية، برفقة أسماء فلسطينية ساطعة كليلى شهيد والياس صنبر، وسينضم إليهم لاحقاً سمير قصير الذي سيشترك معه في تأليف كتاب «الطريق من باريس إلى القدس».
هذا الصديق المقرّب لمحمود درويش، لم تَكْفِهِ الكتب إذاً، فتسلل إلى مجلة هذه المرة ليكتب فصلاً مثيراً آخر من سيرته. ستكسب المجلة بسرعة احترام شرائح واسعة من الكتّاب والمثقفين الفرنسيين. نجاحها سبّب صداعاً للأوساط الصهيونية التي شنّت حملات عنيفة على ما يُنشر فيها، خصوصاً حين تكون لكتاب فرنسيين مرموقين وذوي آراء نافذة ومؤثرة. نشرت المجلة لمكسيم رودنسون وجيل دولوز وفرانسوا شاتليه... يتذكر مردم بك أن نص جان جينيه «ثلاث ساعات في شاتيلا» جعل المجلة تبيع 6000 نسخة، وهو رقم ضخم بالنسبة إلى مجلة فصلية. ويستعيد اتهام الإسرائيليين لجان ماري لو كليزيو (فاز بنوبل الآداب قبل أسابيع)، باللاسامية، بسبب مقاله عن النكبة والللاجئين.
تقاعُد فاروق مردم بك من عمله في «معهد العالم العربي» سيتزامن مع توقف المجلة بعد 27 سنة على صدورها. لماذا؟ يجيب: «الزمن تغيّر. لم تعد المجلات الفصلية تُباع. قبل فترة، نشرنا أنا والياس صنبر كتابين عن «القدس» و«حق العودة» لقيا رواجاً واسعاً. نجاح التجربة دفعنا إلى التفكير في استبدال المجلة بإصدار كتابين في السنة».
وسط هذا الانشغال، وجد فاروق مردم بك وقتاً لإنجاز كتبٍ موقعة باسمه، إضافة إلى كتبٍ مشتركة عن فلسطين. عوّض الشاعر «السابق» هجره للشعر بتقديم الشعر العربي للفرنسيين. هكذا أنجز «أنطولوجيا الشعر العربي» للفتيان التي باعت أكثر من 30 ألف نسخة. وأتبعها بأنطولوجيا عن الشعر الأندلسي عام ٢٠٠٦. والطريف أنّه وجد وقتاً ليؤلف كتاباً مدهشاً عن الطبخ العربي سمّاه «مطبخ زرياب».
قضى فاروق مردم بك ثلثي عمره حتّى الآن في فرنسا. بأي إحساس يعيش حياته اليومية؟ هل هو منفي أم مقيم طوعاً: «لا أحب التركيز على هذه المسألة. إقامتي الطويلة أبطلت إلحاح فكرة العودة عليّ. مجيئي إلى فرنسا كان باختياري. أما عدم عودتي فهو خارج إرادتي. سُحب جواز سفري عام 1976 بسبب توقيعي على بيانٍ ضد دخول الجيش السوري إلى لبنان. قدمتُ طلباً للحصول على جوازٍ جديد، فرُفض، ثم لم أعد أسأل».


5 تواريخ

1944
الولادة في دمشق
1965
سافر إلى باريس لاستكمال دراسته الجامعية، وبقي فيها حتى اليوم
1981
عضو هيئة تحرير النسخة الفرنسية من «مجلة الدراسات الفلسطينية»
1995
عمل مستشاراً ثقافياً لرئيس «معهد العالم العربي» في باريس، وتسلّم إدارة السلسلة العربيّة في «أكت سود» التي تؤدّي منذ ذك الحين، دوراً حيوياً في تقديم الأدب العربي في فرنسا والعالم، وقد نشرت حتّى اليوم 250 عنواناً
2008
جاء بيروت ممثلاً «دار أكت سود» التي كانت ضيفة شرف «معرض الكتاب الفرنكوفوني» قبل أسابيع، وتعود زيارته السابقة إلى اغتيال صديقه الكاتب والصحافي سمير قصير