يسجن الأمن العام اللبناني مئات البشر تحت الأرض على بعد أمتار من مبنى قصر العدل. نزلاء العالم السفلي أجانب تحرمهم السلطات اللبنانية نور الشمس والهواء الطبيعي ويقضي بعضهم أشهراً وسنين لا علم له بما يدور على سطح الأرض. بينما تتعهّد الدولة احترام حقوق الناس في القانون والدستور. أين صدقيّة الجمهورية اللبنانية؟
عمر نشابة ـــ حسن عليق
يشتاق محمد إلى زنزانته في سجن رومية التي غادرها في آب 2007. الشاب العشريني لا يهوى طبعاً الحياة خلف القضبان، لكن منبع الشوق لرومية هو نور الشمس الذي لم يره منذ أدخِل سجن الأمن العام الواقع في الطبقة الثانية تحت الأرض، بل في الطبقة الثانية تحت جسر العدلية.
الدخول تحت الجسر، الذي يصل الأشرفية بجادة الرئيس إميل لحود، محظور من دون إذن النيابة العامة التمييزية. وبمرافقة ضابط من الأمن العام، تبدأ الرحلة إلى العالم السفلي. كلما توغلت تحت الجسر خفَتَ النور الطبيعي، وازداد الانقطاع عن العالم الخارجي. أصوات السيارات والشاحنات التي تعبر الجسر العلوي تبقى المتسلل الوحيد من دون إذن، لتختلط بالهدير الرتيب لشفاطات الهواء.
الطبقة الموازية للطريق العام تستخدَم موقفاً لسيارات ضباط من الأمن العام ورتبائه. في وسط الموقف باب حديدي على اليسار، تقف أمامه سيارة صغيرة لنقل الموقوفين. وعند الباب، يسجّل رجل أمن أسماء الداخلين، حيث تُفَتَّش الأغراض الشخصية التي يريد إدخالها إلى السجن أقارب بعض الموقوفين وأصدقاء لهم. خلف الباب درج ضيق شديد الانحدار، يوصِل إلى الطبقة الثانية تحت الجسر، والتي صُمِّمَت عند تشييده لتكون ــــ كالتي فوقها ــــ موقفاً للسيارات. لكنها، منذ عام 2002، تحوّلت سجناً لحجز بشر.
أسفل الدرج، على الجهة اليمنى، دكان صغير. يخرج منه شاب أسود البشرة يرتدي سترة ذات ألوان فوسفورية كالتي يضعها رجال شرطة السير فوق بزاتهم الأميرية. يحمل الشاب صينيّة عليها أكثر من 20 فنجان قهوة. يدخل باحة صغيرة توزّعت على جنباتها مكاتب ضباط دائرة التحقيق والإجراء في الأمن العام ورتبائها، ثم يتجه إلى اليمين، ليغيب في سرداب طويل. تعج الباحة برجال الأمن، وبموقوفين مقيّدين جالسين على مقاعد خشبية. تزيد الإنارة ذات اللون الأبيض الباهت من انقطاع الموجودين تحت الجسر عن العالم الخارجي، الذي لا يتصل بقعر المعتقل سوى بشفاطات الهواء التي تنقل دخان شاحنات وسيارات تعبر الجسر. بعد مدة غير معروفة ينعدم الإحساس بالزمن، ويبدأ النعاس بالتسلل. «اضطررنا لتعطيل جهاز فحص نسبة الأوكسيجين لأن إنذاراته الصوتية المتكرّرة لا تتوقف»، قال الضابط المسؤول عن السجن. وهو، كزملائه في الأمن العام، تكاد لا تُذكَر أمام أي منهم كلمة «سجن» إلا يصر على التصحيح: «ليس سجناً، إنه نظارة توقيف». فمعظم من ينزلون سجن الأمن العام هم أجانب موقوفون إدارياً، نقلوا إليه بعدما أنهوا محكومياتهم، قبل ترحيلهم أو تسوية أوضاعهم القانونية في لبنان.
السرداب الذي دخله الشاب حامل القهوة ليس كما يبدو من مدخله. فعرضه بعرض الجسر. أرضه مطلية باللون الأخضر رُسِمت عليها خطوط بيضاء كان من المفترض أن تتوقف بينها سيارات ومركبات آلية. إلى اليمين قاعة انتظار وضعت فيها مراوح حديدية لتساعد على التنفس. مكتب الضابط إلى جانب غرف التحقيق، وغرفة أخرى بباب حديدي أسود علقت بجانبه لوحة بلاستيكية كتب عليها «نظارة إفرادية». خلف الباب الأسود 6 أبواب حديدية سوداء تحجب النور عن غرف لا تتجاوز مساحة الواحدة منها متراً مربّعاً. يسارع الضابط للتوضيح: «لا نبقي أحداً هنا أكثر من 3 ساعات». الوقوف داخل الزنزانة الإفرادية يُطبِق على الصدر حتى لو بقي الباب مفتوحاً. هو ضيق تنفس، يصيب حتى من لم يعانِ يوماً من رهاب الاحتجاز. قد يكون ناتجاً من ذاكرة المكان المحمّلة بآلام من مكثوا، ولو لدقائق قليلة، في زنزانة هي أشبه بقبر، يبقى مَن فيها واقفاً. ورغم توضيح الضابط المسؤول المجاز في الحقوق عن مدى احترام الأمن العام لحقوق الإنسان، يصعب عدم تخيّل الآلام النفسية التي ألحِقت بالذين زُربوا في هذا المكان الذي لا يصلح حتى زريبة لأشرس الحيوانات.
التوغل في السرداب على يمين مكتب الضابط يكشف الحقيقة. بين قواعد الأعمدة التي تحمل الجسر أنشئت 13 نظارة. هي أشبه بالأقفاص. فالموقوفون (والموقوفات) يجلسون بين حائط إسمنتي من جهة، وأبواب 4 مراحيض في الجهة المقابلة، فيما ثبتت قضبان حديدية على الجهتين الأخريين، لتفصل المسجونين عن ممرين، غير تاركة أي مجال لخصوصية فردية سوى في المراحيض غير المنارة. على قضبان إحدى الجهتين، كدّس الموقوفون (والموقوفات) أمتعتهم وأحذيتهم وقوارير ماء حتى كادت تحجب الرؤية. الزنزانة الأولى هي الأقل اكتظاظاً، إذ ينزل فيها لبنانيون. أوقِف فيها 7 رجال بدت على وجوههم ملامح الضجر، وكأنهم ينتظرون موعد إطلاق سراحهم القريب. هم على يقين أنهم لن يقضوا وقتاً طويلاً في هذا المكان، إذ إن نظارة الأمن العام مخصصة للموقوفين الأجانب. أما اللبنانيون، فهم ممن قبض عليهم في مراكز الأمن العام، وخاصة الحدودية، ويحالون سريعاً على القضاء.
الزنزانة الثانية للأحداث. فيها 10 صبية، أعمارهم بين 14 و18 سنة. بينهم صبي يبدو الإرهاق جلياً على وجهه المائل نحو الاصفرار. «ليش أنت هون؟» يسأله أحد الزملاء. «دخول خلسة... أنا سوري سيدي، وكنت جايي حصّل لقمة عيش بلبنان وانلقطت». يقترب زميله مبتسماً مظهراً كتفه الملونة بالأوشامالنظارة الثالثة للفيليبينيات والأوروبيات، أما الرابعة والخامسة فللسريلنكيات والأثيوبيات. بعدها جناح الرجال الممتد من الزنزانة السادسة إلى آخر زنزانة في الممرّ الطويل. الموقوفون من جنسيات مختلفة، معظمهم عراقيون ومصريون وسوريون وسودانيون. بشرة معظم الجالسين خلف القضبان سوداء. لا ينقص مشهدهم غير سلاسل تربط بها أقدامهم لتعود الذاكرة إلى الفيلم الذي يحكي قصة أناس خُطِفوا حديثاً من أفريقيا واستعبدوا لينقلوا في سفينة إلى «العالم الجديد». العسكر في لبنان ينقلون مئات السيدات والرجال والفتية مربوطين بأصفاد حديدية إلى تحت الأرض، حيث يزربون في أقفاص تضيق بهم، يلتقطون فيها أنفاسهم لأيام قد تمتدّ أشهراً وسنين.
«منذ أسبوع أو أكثر» أجاب أحد الصبية (15 سنة) عندما سألته «الأخبار» عن تاريخ اعتقاله. اللافت في جواب الطفل (الطفل هو تحت سن الـ18 بحسب الاتفاقات الدولية) عدم معرفته بالتاريخ الدقيق لنزوله تحت الجسر. إنه ضياع الزمن في مكان حُرِم من بداخله التمييز بين الليل والنهار. «منذ 17/8/2007» يقول محمد، الشاب الصومالي الذي دخل إلى لبنان بجواز سفر سوداني مزور. فبعدما أنهى محكوميته في سجن رومية، لم يخرج إلى الحرية، بل نزل إلى تحت الأرض. أكثر من سنة و3 أشهر تحت الأرض. هو لا يحتاج اليوم إلى أكثر من أن يطلّ برأسه للشمس، ولو للحظة، ليشعر أنه لم يمت، وأنه سيعود يوماً إلى «السطح».
لا يفعل الموقوفون شيئاً خلال يومهم. يبقى معظمهم ممدداً طوال الوقت. ومن كان منهم محظوظاً و«حسن السلوك»، يُسمَح له بالتجول قرب الأقفاص وشراء أغراض زملائه من الدكان. يرتدي المحظيون سترات فوسفورية.
الزيارات مسموحة يومي الثلاثاء والخميس. ويواجه الزائرون الموقوفين من خلف شبك حديدي لا يكاد يُرى عبر ثقوبه الضيقة. ويوجد هاتف عمومي يستخدمه نزلاء الأقفاص بعد شراء بطاقات مسبقة الدفع. أما التواصل بين الموقوفين والموقوفات، فهو من أشد المحظورات. خارج كل نظارة ــــ قفص مرآة كبيرة مثبتة على عمودين حديديين. تبعد كل واحدة عن القضبان الحديدية نحو متر واحد. يستخدمها الموقوفون والموقوفات لتسريح شعورهم. يقول أحد الحراس إن نزلاء السجن ونزيلاته كانوا يستغلون المرايا للتواصل البصري في ما بينهم. ولذلك، أبعِدَت المرايا كي لا يطالها المسجونون ويحركوها.
تجسّد الكهرباء طاقة الحياة الوحيدة في هذا المكان. «من دون كهربا منموت» يقول ضابط أثناء جولة في الممرّات، «تؤمنها مولدات احتياطية». وعند سؤاله عن التعذيب يجيب: «أبداً! لا يوجد تعذيب في نظارات الأمن العام». يتنشق نزلاء الأقفاص وحراسهم سواد دخان الشاحنات التي تمرّ فوق الجسر. المشكلة الصحية الكبرى تبرز عند ضباط الأمن العام ورتبائه الذين يعملون تحت الأرض، وبعضهم منذ عام 2002. يعاني معظمهم من أمراض تنفسية وجلدية. فبعد الساعة الثانية بعد الظهر، يُسمَح للموقوفين بالتدخين، فـ«تدور المشحرة»، كما يقول أحد الحراس. إذ إن أكثر الموقوفين من المدخنين. وبما أن الولاعات ممنوعة في أيديهم، يُشعل أحد الحراس سيجارة موقوف في كل زنزانة، ويبدأ الأخيرون بإشعال سجائر زملائهم، وتبقى السجائر مشتعلة حتى ينام آخر مدخن.
نزلاء الأقفاص وحراسهم ليسوا وحدهم. تُُشاركهم العيش تحت الأرض قططة وجرذان تتسلل إلى داخل السجن غير المسوّر أحد مداخله بجدار. وأكثر ما تتغلغل الجرذان في الفرش الإسفنجية العفنة المكدّسة خارج النظارات.
يعتمد الأمن العام على منظمات غير حكومية في رعاية السجناء والحفاظ على أدنى الحقوق الإنسانية. إذ يتباهى الضباط بوجود مكتب لجمعية كاريتاس لبنان في النظارة وكان المستوصف أول الغرف التي يحرص الضباط على تعريضها لعدسة كاميرا الصحافة. تقدّم كاريتاس الوجبات الساخنة للموقوفين والفرش والبطانيات. وجهزت الجمعية النظارة بآلات تسخين المياه.
المدير العام للأمن العام اللواء وفيق جزيني، وضباط الأمن العام الذين التقتهم «الأخبار»، يعبّرون عن عدم ارتياحهم لوضع النظارة تحت الجسر، لكونه لا يتناسب مع معايير حقوق الإنسان. هم يدركون أن جهوداً تبذل لمعالجة مشكلة الاكتظاظ، عبر البحث عن نظارة بديلة فسيحة، تكون ظروفها أكثر إنسانية. يأمل الضباط أن تؤدي المساعدات التي سيقدمها الاتحاد الأوروبي في هذا الإطار إلى حلّ المشكلة، غير أنهم يتمنون على سفارات الدول التي تكتظّ النظارة برعاياها (وخاصة الذين ينتظرون ترحيلهم من البلاد لمخالفتهم قانون الأجانب) أن تساهم جدياً في معالجة المشاكل.
الخروج من باطن الأرض كان أبطأ من النزول إليه. ربما هو نقص الأوكسيجين الذي يجعل صعود درج أكثر صعوبة من العادة. هما عالمان شديدا الاختلاف في بلد يفاخِر أهلُه بأنه «رسالة»، وانهم «أكثر تحضّراً» ممن حولهم. لا يجمع بين العالمين سوى دخان الشاحنات والسيارات، وورقة ألصِقَت فوق لوحة تحمل رقم إحدى النظارات، كُتِب عليها بالفرنسية: «أنا أحب الحياة».


تشطيب النفس تعبيراً عن الألم
معاناة العسكر
إساءة إلى المؤسسات؟


متر مربّع لكلّ موقوفممنوع التدخين قبل الساعة الثانية بعد الظهر، وممنوع إدخال الولاعات الى الزنازين. ممنوع إدخال كل أنواع الطعام. وأبرز الممنوعات هو التلفزيون. فالسجون الخاضعة لقوى الأمن الداخلي وحتى تلك الخاضعة للجيش تسمح بوجود التلفزيون، غير أن المديرية العامة للأمن العام قرّرت منعه حتى عن الحراس أثناء أوقات الراحة.