كل المدن والبلدات الجديدة على وعيك، تدخلها زائراً سائحاً، إلا الهرمل القابعة على كتف لبنان الشرقي، والمتربعة على عنق نهر العاصي، تدخلها كأنك من أهلها، ابناً لآلاف المنازل والحكايات التي تنتظرك بلكنةٍ بقاعية جميلة، فيها رائحة الشمس التي لا تغيب هنا
خضر سلامة
حين نريد الكلام عن الهرمل، النجمة الطالعة كزهرة برية على جبين البقاع، قد نسهو عن ذكر «جمهورية الفانات»، إحدى العلامات المسجلة باسم أهل المنطقة، والخيط الذي يربط المدينة الأبعد عن العاصمة، بشقيقاتها كزحلة، أو بعلبك، أو بيروت.. الخيط الذي يحفظ الصلة الديموغرافية والتجارية والعمّالية أيضاً، لمن لا يدري أهمية هذه الوسيلة للنقل، في منطقة يعد دخل الفرد فيها من الأدنى في لبنان، وذلك بفضل إهمال الجميع، سلطةً وأحزاباً نافذةً وسياسيين متسلطين.. لم يعوا بعد حجم الحاجة هنا لجهد الرعاية أو المساواة.. في كل شيء.
حسناً، في الهرمل كل شيء هادئ، يضج بصمت المدينة الصغيرة التي ما زالت تبحث عن كل ما يعلقها خارج رداء الإهمال الرسمي المتوارث منذ زمن نكاد لا نذكره لقدمه، كل شيء يتغير بسرعة بين الزيارة والأخرى، ولو بصعوبة، المدينة آخذة في الاتساع، الوعي الشعبي أخذ في استصلاح الأراضي الواسعة في الجرود، بعض الالتفاتات الرسمية والحزبية ولو الخجولة، أثمرت على مدى العقد الماضي مشاريع صغيرة، تبقى كافيةً لغرس الأمل في النفوس، الطريق الجديد الموصل إلى البلدة الذي يُراهن عليه لتجاوز مآسي الماضي وحوادث السير الكثيرة، السد الصغير الذي ما زال قيد الإنشاء والذي تعلق آمال الفلاحين والمزارعين على جوانبه طلباً للري ولتطوير القدرة الإنتاجية لقطاع الزراعة، رأسمال معظم أبناء الهرمل: أرضهم وخيرها.. وبعد، المستشفى الحكومي الذي انتهى النزاع الحزبي عليه بعد عناءٍ وتعطيل طويل، ولو أن الجميع في سدة المسؤولية تركوا مشكلة أكبر تخنق المستشفى، مكب النفايات القريب جداً، الذي يحاصر الصحة الاستشفائية للمنطقة.
كل شيء يتغير شيئاً فشيئاًَ، المقاهي الأكثر «مدنية» من سابقاتها تنتشر، محال الإنترنت والاتصالات تتكاثر بعد أكثر، زحمة نهاية الأسبوع تمحو هدوء الأسبوع كله، كل شيء يتغير قليلاً أو كثيراً، إلا بعض الألوان الجميلة في ملامح جميلة البقاع، سجّل أيها الضيف الكريم لديك بعض ذلك:
كل شيء يتغير إلا الكرام الكرام، أبناء الفقر الذين يعضون على الحرمان بأنياب الشدة والضيافة: كل المنازل منزلك، وكل الأيادي تعبق بدفء الترحاب والسلام، عرس العائلة عرس للمدينة كلها، وفرح الأسرة يثقل كاهل الجميع.. ثمة شيءٌ بديع يشدك إلى وجه كل عابر، بسمة لا تفارق أهل هذه المدينة، لتكون بحق، مدينةً بقلبٍ ريفي طيّب وبريء.
كل شيء يتغير ويتمدّن قليلاً، إلا نهر العاصي، عصيّ على الحداثة، يشد على حطته العربية، وتخاله كأي فلاحٍ عجوز في الأرجاء يتفقد حقله، تخال العاصي يخرج من مائه كل قليل مع عبور النسيم البارد، ليفتل شاربيه فوق رابيةٍ سمراء من الربى المحيطة، يحصي عدد الوافدين إلى المطاعم السياحية المنتشرة، يرحب بهم برقصة دبكةٍ يتقنها كل طفلٍ هنا، ويفتح الليل بتلاطم مَوجه القادم من حيث لا ندري، والراحل صوب الحدود.
في الهرمل تحتار العين أين تجول، بين الصمت الخلاب للجرود، الذي لا يقطعه إلا مرور شقيّ لشاحنات التهريب، التي بالمناسبة عدا كونها استثمارات فردية مافيوية وعشائرية تهدد اقتصاد المنطقة وتعمّر دولةً من المحسوبيات والسلطات المالية النافذة لأصحابها، عدا ذلك، فخطر عدم اكتراث السائق بأي مار على الطريق أو أي حاجز أو سيارة عابرة، يهدد النفوس أيضاً، لا شيء يوقفهم، لا هذه الدولة ولا تلك الدولة.. إذا وجدت الدولة مثلاً...
إذاً، تحتار العين أين تجول... في الشوارع الضيقة والأزقة التي تحاصرها المنازل الصغيرة المبنية بتواضع الزمن القديم، والتي تترك غالباً ضحيةً للإهمال من ناحية التصريف الصحي ورعاية البنية التحتية، وللتأخر في الانتهاء من الأشغال المنتشرة... أو بين بعض الفيلات المنتشرة على الأطراف، التي ترسم بقسوة تجاعيد فروق طبقية بين العائلات أو ضمنها أحياناً... كل ذلك كلام جدير بالتدوين، في الهرمل كل شيء، عالمٌ على حجم لفتة عين!
الحدود مع سوريا إذاً، على مرمى حجر، حمص المدينة الأقرب، ولمن فاته الأمر، يقوم أمر الكثيرين هنا على الصلة الاقتصادية والاجتماعية مع الجار السوري، المنفذ الأسهل والأنسب للقدرات الاقتصادية المحدودة التي تشل البعض ـــ الكثير، أمام المنافذ المغلقة في الداخل اللبناني على فقراء المنطقة، من سوريا يتسوق البعض، «يغيّر جو»، ويقصدها للاستشفاء أو للدراسة.. أسباب كثيرة تبقى جميعها نابتة من رحمٍ واحد، إهمال السلطة اللبنانية التاريخي للبلدة.
قد لا يتسع الحبر لكل شيء، بين إمبراطورية نهر العاصي، والتلال الجرداء والأراضي المستصلحة، وبين الغمز واللمز عن زراعة الحشيشة التي يشرعها العوز ـــ في نظر البعض ـــ وبين طيبة القلوب وصفاء النفوس، وحكايات «العشائر» وحساباتهم العائلية، وبين الفقر الملوّن بعزة النفس، وبين الإهمال المقصود والموروث الذي لا تخفف من ألمه مشاريع «رفع العتب»، وبين العلاقة الممتدة مع القرى المحيطة حتى إلى ما بعد الحدود.. بين كل ذلك وبينك أنت، يوميات تود لو تعود غداً لتكمل كتابتها على جذع شجرةٍ، تقارب عمر عجوز يحدثك عن «مدينة الشهداء» العزيزة على قلب المقاومين هناك بعيداً، في الجنوب... عن مدينة الهرمل.


الإقامة الطويلة

في الخمسينيات وفد إلى الهرمل عدد كبير من أساتذة المدارس الآتين من بيروت أو المناطق الأخرى، كانوا يُنتدبون «رغماً عنهم» للتعليم في البلدة، معظمهم أبدى مقاومة شديدة قبل الرضوخ لقرار نقله إليها، اليوم بعد عقود طويلة، ما زال هؤلاء يعيشون في البلدة التي عشقوها. وهم شاركوا في بناء المكتبة العامة التي تفخر بها الهرمل، ويذكّر أبناءها بأن هذه القرية المهملة كانت حاضنة للأحزاب اليسارية.