عبد الله كامل ناصر الدين كُتب الكثير عن مدى تأثير السياسة على الاقتصاد. جانبٌ من هذا الكثير تناول التأثيرات الاقتصادية للديموقراطية ببعديها الإيجابي والسلبي. ليس هدف هذا المقال الغوص في تفاصيل تلك البحوث، بل الغاية منه تسليط الضوء على أحد التأثيرات الاقتصادية السلبية للديموقراطية. فالديموقراطية، بمعناها الانتخابي الذي ينتج منه تناوب السلطة بين الفرقاء السياسيين، تؤدي إلى «قصر النظر» الاقتصادي. بمعنى آخر، السياسيون وأصحاب القرار، هؤلاء المنتخبون من الشعب، ومن أجل غايات انتخابية، يركزون في أدائهم على السياسات الاقتصادية التي تعطي ثمارها قبل الانتخابات أو مع حلولها. لذلك، يعمل السياسيون في الأنظمة الديموقراطية على زيادة الإنفاق والتحويلات، بالتوازي مع بعض الخفوضات الضريبية، بالإضافة إلى إصدار قرارات اقتصادية تسعى إلى استرضاء بعض التكتلات الاقتصادية الضاغطة والفاعلة كالنقابات، ذلك من أجل استقطاب أكبر قدر ممكن من الناخبين. هذا «القصر في النظر» يزيد العجز وينهك الاقتصاد على المدى البعيد، فتنعم أجيال الحاضر على حساب الأجيال القادمة. هذا، باختصار، واحد من التأثيرات الاقتصادية السلبية للديموقراطية.
عندما تتأمل قليلاً بالديموقراطية اللبنانية، تلاحظ بدهشة، أنها لا تعاني من تلك التأثيرات السلبية، فلا هو الإنفاق يزداد (ما عدا خدمة الدين طبعاً)، ولا هي التحويلات تتدفق ولا الضرائب تنخفض. فما هو السبب يا ترى؟
هل يمكننا أن نعتبر مثلاً أن ساستنا، بوعيهم وحرصهم على مستقبلنا، يعملون لأجله اليوم ولو كان ذلك حساب حاضرنا الخانق؟ أليس المثل يقول اصبر تنل؟ من يعلم، ربما خانتنا ظنوننا ـــ نحن الشعب ـــ فإذ بنا نعيش في نعمة نحن جاحدون بها؟ أو ربما يخطط ساستنا دون أن ندري لعام 2050 ونحن بقلة صبرنا نظلمهم؟ أو ربما يسعى هؤلاء جاهدين كي تنعم الأجيال في ذلك العام بغزارة الخدمات والرفاهية؟
نعم الرفاهية، إنّهم يعملون اليوم ربما من أجل أن ينعم المواطن بالكهرباء والماء يومئذٍ من دون تقنين ولا تمنين ولا حتى قتلى؟ من يعلم؟ ربما يحضّر هؤلاء لمشروع ضمان للشيخوخة يثمر حينئذٍ، فيستفيد منه من بقي على قيد الحياة ممن بقي في لبنان من شباب اليوم؟ أو لربما يحاورون المقاومة اليوم من أجل أن يقتنعوا بعد خمسين عاماً بأنه يحق لهذا الوطن أن يكون قوياً؟
يبدو أنّ ديموقراطيّتنا في لبنان تعاني، وبخلاف ديموقراطيات العالم، من الإفراط في «بعد النظر» لا من قصره. ربما لأن السلطة قد أخذت جرعة زائدة من «المستقبل» حتى ارتضته اسماً لها، فعملت له ومن أجله فقط، حتى باتت عمياء عقيمة غير قادرة على أن تتقبل أو تتعامل مع سواه.